• الموقع : مركز العترة الطاهرة للدراسات والبحوث .
        • القسم الرئيسي : مواضيع مشتركة ومتفرقة .
              • القسم الفرعي : شعائري / فقهي شعائري .
                    • الموضوع : ما مدى صحة الفقرة الواردة في زيارة مولاتنا الصدّيقة المطهرة زينب الكبرى صلوات الله وتسليماته عليها: (السَّلام عليك أيتها المتحيّرة في وقوفك في القتلى..) ؟. .

ما مدى صحة الفقرة الواردة في زيارة مولاتنا الصدّيقة المطهرة زينب الكبرى صلوات الله وتسليماته عليها: (السَّلام عليك أيتها المتحيّرة في وقوفك في القتلى..) ؟.

 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ
(شبهة حول سيرة الصدِّيقة المطهرة سيّدتنا الحوراء زينب صلوات ربي عليها والإيراد على الشبهة )
      الموضوع الشعائري:ما مدى صحة الفقرة الواردة في زيارة مولاتنا الصدّيقة المطهرة زينب الكبرى صلوات الله وتسليماته عليها: (السَّلام عليك أيتها المتحيّرة في وقوفك في القتلى..) ؟.
  سألنا أحد العلماء الأفاضل في العراق (سماحة السيّد سلام الزينبي) عن الحيرة التي جاءت في الزيارة المفجعة لمولاتنا الصديقة الكبرى بعد أمها صلى الله عليهما (السلام عليكِ أيتها المتحيِّرة..) فقال:
   مولاي: ورد في زيارة أُمنا السيّدة زينب الحوراء عليها السلام:( السلام عليك أيتها المتحيرة في وقوفك في القتلى..) أليس هذا تنزيلاً لها عن مقامها الأرفع..؟ وهل مثل أمّنا السيّدة زينب عليها السلام تحتار..؟ وهذا الكلام لم يرد على لسانهم الشريف.
  وقبل الإجابة على السؤال أحببنا نشر الزيارة الزينبيّة المفجعة (على صاحبتها آلاف الصلوات والتسليمات) ليكون الزائرُ المتعلِّم على درايةٍ بما يقرأ ويزور..وليكون زائراً لتلك الحُرَّة الصدِّيقة المطهرة الحوراء زينب الكبرى صلَّى الله عليها  عن معرفة ودراية (عارفاً بحقّها) وبما يخاطب بها سيّدته المطهرة زينب الكبرى صلوات ربي عليها..
نص الزيارة الخاصة بمولاتنا الصدِّيقة زينب الكبرى (صلوات الله وسلامه عليها )
    قال صاحب كتاب (وفيات الأئمة عليهم السلام ) ص 484 وليس له إسم : ( يقول مؤلف هذه الوفاة وجامع هذه المقتطفات: وجدت في كتاب (السيدة زينب عليها السلام) تأليف الشيخ أحمد فهمي زيارة الصدِّيقة زينب (عليها السلام) قال: وقد ذكر في كتاب ذخيرة العباد ما يشير إلى كيفية زيارة قبر السيّدة زينب بنت عليّ (عليهما السّلام ) قف عند قبرها وقل :
بسم الله الرحمان الرحيم
   السلام عليك يا بنت سلطان الأنبياء، السلام عليك يا بنت صاحب الحوض واللواء، السلام عليك يا بنت فاطمة الزهراء، السلام عليك يا بنت خديجة الكبرى، السلام عليك يا بنت سيد الأوصياء وركن الأولياء أمير المؤمنين، السلام عليك يا بنت ولي الله، السلام عليك يا أم المصائب يا زينب بنت علي ورحمة الله وبركاته ، السلام عليك أيتها الفاضلة الرشيدة ، السلام عليك أيتها العالمة الكاملة[العاملة الكاملة ]، السلام عليك أيتها الجليلة الجميلة، السلام عليك أيتها التقية النقية ، السلام عليك أيتها المظلومة المقهورة ، السلام عليك أيتها الرضية المرضية ، السلام عليك يا تالية المعصوم ، السلام عليك يا ممتحنة في تحمل المصائب بالحسين المظلوم ، السلام عليك أيتها البعيدة عن الآفاق ، السلام عليك أيتها الأسيرة في البلدان ، السلام على من شهد بفضلها الثقلان ، السلام عليك أيتها المتحيرة في وقوفك في القتلى وناديت جدك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بهذا النداء: صلى عليك مليك السماء هذا حسين بالعراء مسلوب العمامة والرداء مقطع الأعضاء وبناتك سبايا ، السلام على روحك الطيبة وجسدك الطاهر ، السلام عليك يا مولاتي وابنة مولاي وسيدتي وابنة سيدتي ورحمة الله وبركاته ، أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وأطعت الله ورسوله وصبرت على الأذى في جنب الله حتى أتاك اليقين ، فلعن الله من جحدك ولعن الله من ظلمك ولعن الله من لم يعرف حقك ولعن الله أعداء آل محمد من الجن والإنس من الأولين والآخرين وضاعف عليهم العذاب الأليم .
    أتيتك يا مولاتي وابنة مولاي قاصدا وافدا عارفا بحقك فكوني شفيعاً إلى الله في غفران ذنوبي ، وقضاء حوائجي ، واعطاء سؤلي وكشف ضري ، وأن لك ولأبيك وأجدادك الطاهرين جاهاً عظيماً وشفاعةً مقبولة ، السلام عليك وعلى آبائك الطاهرين المطهرين وعلى الملائكة المقيمين في هذا الحرم الشريف المبارك ورحمة الله وبركاته .
ثم صل ركعتين لله تعالى قاصداً إهداء ثوابهما إليها ، ثم ادع الله عز وجل بما أحببت فإن قبرها أحد الأماكن المجاب فيها الدعاء .
    وقبل انصرافك اتجه إلى قبرها وودعها بهذا: السلام عليك يا سلالة سيّد المرسلين، السلام عليكِ يا بنت أمير المؤمنين، السلام عليك يا بنت فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، أستودعك الله واسترعيك وأقرأ عليك السلام، اللهم لا تجعله آخر العهد مني لزيارة أم المصائب زينب بنت علي عليه السلام، فإني أسألك العود ثم العود أبداً ما أبقيتني وإذا توفيتني فاحشرني في زمرتها وادخلني في شفاعتها وشفاعة جدها وأبيها وأمها وأخيها برحمتك يا أرحم الراحمين .
 اللهم بحقها عندك ومنزلتها لديك اغفر لي ولوالدي ولجميع المؤمنين والمؤمنات وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا برحمتك عذاب النار وصلى الله على سيدنا محمدا وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

 

 
**************
بسم الله جلَّت عظمته
وتباركت أسماؤه
     الحمد لله ربِّ العالمين، العظيم الشأن، المتعالي على الزمان والمكان والمادة والكيفيات، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وتاج النبيين والمرسلين وسيّدهم والمفضّل عليهم في المناقب والفضائل والكرامات والمعاجز..والصلوات التامات والتسليمات الزاكيات على آله الأطهار نواميس الدهر وسادة الخلق ومصابيح الدجى وسفن النجاة والعروة الوثقى، حجج الله تعالى على عامة عباده قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق، مدراء الكون وأعضاد الملة والشريعة، من آمن بهم نجا، ومن جحدهم كفر..واللعنة الدائمة السرمدية على أعدائهم المنكرين لظلاماتهم ومناقبهم ومنازلهم ومعاجزهم وكراماتهم والمشككين بعصمتهم وإمامتهم وولايتهم إلى قيام يوم الدين..
  وبعد..  
    لقد طرأت شبهةٌ على فقرة من فقرات الزيارة الخاصة بمولاتنا الصدِّيقة المطهرة الحوراء زينب بنت أمير المؤمنين عليّ وسيّدة العالمين رجالاً ونساءً فاطمة البتول صلَّى الله عليهم ولعن الله الظالمين لهم والمنكرين لفضائلهم وعصمتهم وطهارتهم وظلاماتهم ومنازلهم الطاهرة وعلو قدرهم عند الله عزَّ وجلَّ..ولطالما كنت أُحدّث نفسي عندما أصل إلى فقرة (السلام عليك أيتها المتحيِّرة بوقوفك في القتلى..) فكنتُ أتردد بنطقها بسبب لفظة (المتحيّرة) وأسأل نفسي كيف تحتار سيدتنا المطهرة زينب سلام الله وصلاته عليها وهي الشامخة في الصبر والعظيمة في الإدراك والتعقل والإلهام والتسديد والعرفان..فكنتُ أعد نفسي بأن أحلَّ اللغز في هذه الفقرة المتشابهة..إلى أن قيَّض الله تعالى لنا سماحة العلامة السيّد سلام الزينبي الطيَّار حفظه الله تعالى فبادر إلى السؤال منا لكي نجيب على تساؤلِه حول الحيرة التي وقعت فيها مولاتنا المطهرة زينب صلوات الله عليها، فولَّد فينا الحميَّة على تلك الحُرَّة الأبيَّة لنذود عنها ما يمكن أن يكون غير لائقٍ بحقها، وفي الوقت نفسه لننزّه إمامنا الحُجَّة القائم المهدي (صلَّى الله عليه وآبائه الطاهرين) عما يكون قد أُلصِقَ به بغير علمٍ، إذ إن إثبات شيءٍ للمعصوم عليه السلام لا بُدَّ أن يكون مندرجاً في خانة الدليل، فلا تكفي الظنون والإحتمالات الملصقة بإمامنا القائم (أرواحنا لشسع نعليه الفداء)؛ وبحدود إطلاعنا إن أول من نسب الزيارة الزينبية المفجعة إلى إمامنا المعظَّم القائم من آل محمَّد عليهم السلام هو سعيد الخويلدي في كتابه (زينب القدوة والرمز) ولم يذكر لنا المصدر الحاكي عن الإمام القائم صلوات ربي عليه لنكون على دراية بالزيارة..كما أن صاحب كتاب (وفيات الأئمة عليهم السلام) ولم يُذكر له إسم أيضاً، قد نقل عن الكاتب أحمد فهمي الذي نقلها بدوره من كتاب (ذخيرة العباد) ولم يذكر لنا إسم مؤلف الذخيرة، فهناك العشرات من الكتب بهذا الإسم، فالناقل يريد إيهامنا بعنوانٍ مجْمَل نضيع في ثناياه..!! فصار عندنا ثلاثة أفراد نقلوا لنا الزيارة من دون أن يثبتوا لنا إسم صاحب ذخيرة العباد والفصل الذي نقلوا الزيارة منه..ونحن لم نتوانَ عن التنقيب في النسخ الكثيرة لكتاب ذخيرة العباد لعدة مصنفين في الفقه وباب الزيارات فلم نستهدِ على الزيارة المفجعة..بل ليس لمولاتنا الصديقة المظلومة زينب عليها السلام زيارة خاصة بها لا من قريب ولا من بعيد ولو بالتلويح..فإنكم تجدون زيارات خاصة بسلمان الفارسي وصعصة بن صوحان وغيرهما في حين لا نجد لمولاتنا الصدّيقة الكبرى زينب المطهرة ولو سطراً من الزيارة..! لِمَ كلُّ ذلك..وما السبب..؟! إنَّه التعتيم الإعلامي الأموي على من وقفت سداً منيعاً ضد الدولة الأموية التي استباحت عترة النبيّ الأعظم محمَّد صلَّى الله عليه وآله فقتلت سبطي النبيّ الإمامين الحسنين وحاربت والدهما أميرَ المؤمنين عليَّاً عليهم السلام وبعضاً من الأئمة الأطهار عليهم السلام..هذا بالإضافة إلى ما قد يُقال من أن عنصر التقية الذي عاشه الشيعة يومذاك قد استدعى تغييب زيارة مولاتنا الصديقة زينب عليها السلام بزيارة خاصة..ولكنَّه تعليلٌ ربما يفي بالغرض للسكوت عن الإجابة لا سيَّما إذا أخذنا بنظر الإعتبار هيمنة الدولة الأموية على الأراضي الشامية..ولكننا لم نقتنع بهذا التعليل وذلك لأن الأمويين لم يحكموا أكثر من ثمانين سنة ثم جاء من بعدهم العباسيون ثم الدولة الحمدانية الشيعية ولم نرَ زيارة خاصة بمولاتنا الصديقة زينب عليها السلام..والتعتيم الأموي لا يمنع من وجود زيارة من إنشاء المعصوم تكون خاصة لها في التل الزينبي بجوار مرقد أخويها الحبيبين الإمام أبي عبد الله الحسين والوليّ أبي الفضل العباس عليهما السلام بل ولا يمنع من وجود زيارة لها في الشام أو مصر بحسب زعم البعض بأنها دفنت في مصر..!
  يبدو لي أن هناك زيارة خاصة لها من إنشاء المعصوم عليه السلام وذلك لأمرين هما :
   الأمر الأول:إنَّ البتريين من أعوان خندق السقيفة والدولة الأموية والعباسية أخفوها بل وطمسوا ذكرها أيضاً..إذ لا يخلو منهم عصرٌ ومِصر..ولسوف يتجدد أمرهم قبل ظهور إمامنا الحُجَّة القائم المهدي صلَّى الله عليه وآله كما في رواية دلائل الإمام للطبري؛ ولسوف ينكرون إمامته وعددهم ستة عشر ألفاً فيهم الفقهاء في الدين والقراء شاكين الأسلحة لقتاله معترضين عليه بقولهم عند دخوله إلى النجف (إرجع يا ابن فاطمة لا حاجة لنا فيك أو بك) فيمهلهم ثلاثة أيام للتوبة فلا يتوبون فيجرد فيهم سيفه فلا يبقي منهم أحداً..وقد بدأت إرهاصاتهم في عصرنا الحاضر وباتوا يشككون في وجود الإمام المهدي المنتظر عليه السلام..بل أعلنوا جهاراً بعدم وجوده كأحمد الكاتب، وبعضهم اعتقد بعدم وجود فائدة لظهوره الشريف ما دام عندنا دولة شيعيّة يقوم زعيمها بتولي زمام الأمور..!! كما بدأوا بالتشكيك بظلامات أهل البيت عليهم السلام وبكراماتهم ومناقبهم وعصمتهم وإمامتهم وعلى رأسهم محمد حسين فضل الله وأولاده وصهره أحمد طالب وحاشيتهم كياسر عودة وحسين الخشن وكمال الحيدري والسيستاني وأولاده والصرخي وتياره ومحمد علي الحسيني البقاعي وعلي الأمين وحيدر حبَّ الله العامليين وأحمد القبانجي وحسين المؤيد الذي أعلن نصبه على آل محمد واعتمر العمامة السنيّة والحبل على الجرار بالنسبة لمن يتستر بالتشيع ولكنه واقعاً غير معتقدٍ بالتشيع وفيهم عمائم تناطح السحاب..حتى أننا سمعنا منذ فترة أن أحد المدعين للسيادة في فرنسا يعتقد بأن الخميني هو الإمام المهدي..!!
   الأمر الثاني:إن الشيعة قصَّروا في زيارتها في بلاد الشام أو مصر أو المدينة بحسب الأقوال في مكان مرقدها..ذلك لأنَّهم نظروا إلى الإمام وأخيه وأهل بيته الذين استشهدوا معه ولم ينظروا إلى البقية الباقية من نسوة وإخوة الإمام الحسين عليه السلام، ولا أظنُّ أن أئمة الهدى عليهم السلام لم يسنوا لها زيارة خاصة بها صلوات ربي عليها ولكنها لم تنتشر بسبب قلة الوافدين لزيارتها في بلاد الشام أو مصر بفعل عامل الإضطهاد الذي عاشه الشيعة في عهود الدولتين الأموية والعباسية اللتين حاصرتا أئمة الشيعة وأتباعهم وأشياعهم..أو لربما لم يسنَّ أئمتنا الطاهرون عليهم السلام زيارة خاصة بها بسبب العامل الأول وهو قلة المتوجهين إلى زيارة ضريحها المقدَّس الضائع بين ثلاثة أماكن: المدينة ومصر والشام..ولكن مما يهوِّن الخطب أن الزيارة الزينبية المفجعة التي نُسِبَت إلى الإمام الحُجَّة القائم صلوات ربي عليه وآله فيها ما يثلج الفؤاد ويعطينا دروساً عالية المضامين في معرفة سيّدتنا الصدّيقة الطاهرة زينب صلوات الله عليها، فنزورها بها برجاء كونها صادرة من الإمام القائم صلَّى الله عليه وآله على قاعدة "التسامح في أدلة السنن" التي لا شك في أن زيارتها بهذه النية تحقق المطلوب وفيها الثواب والرضا والرحمة والرضوان..ويبقى علينا أن نثبت صحة الفقرة المتشابهة لكي يكون الزائر عارفاً بما يزور لا شاكاً في عصمتها أو رجاحة عقلها بسبب هول المصائب والرزايا التي أثقلت كاهل العقيلة الصدّيقة المطهرة زينب الحوراء صلَّى الله عليها ولعن الله ظالميها من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين..
      عودٌ على بدء:
      لدينا جوابان على دفع الشبهة الواقعة في الفقرة الواردة في زيارة سيّدتنا المطهرة الصدّيقة سيّدة النساء زينب الكبرى سلام الله عليها:أحدهما إجمالي والآخر تفصيلي:
    الجواب الإجمالي: إن فقرة السلام على المتحيّرة المذكورة - موضوع بحثنا - وردت في الزيارة المفجعة التي لا يوجد غيرها من الزيارات الخاصة بمولاتنا الصدّيقة المطهرة سيّدتنا زينب بنت أمير المؤمنين وبنت الصدّيقة الكبرى مولاتنا وسيدتنا المطهرة فاطمة الزهراء عليهم السلام...وأول من نسبها الى الإمام المهدي صلوات الله عليه وآله هو الشيخ سعيد الخويلدي في كتابه (زينب القدوة والرمز ص ٢١٢)؛ مستدلاً على قبر مولاتنا الحوراء المطهرة في قرية راوية في ضواحي دمشق فقال: ( أشار إمام العصر والزمان أرواح العالمين لمقدمه الفداء إلى أن هذا المقام الذي في قرية راوية بالشام هو مقام العقيلة زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين عليه السلام في الزيارة المفجعة..).
     وثمة نسخة أُخرى للزيارة تعرَّض لها صاحب كتاب ( ذخيرة العباد) ولكنَّه لم يذكر فيها كلمة (الشام) وإنما الموجود في نسخته هكذا: ( السلام عليك أيتها المتحيرة في وقوفك في القتلى..) ونسخة ذخيرة العباد تختلف في بعض فقراته عن النسخة التي تتداولها هيئة الوقف في مقام سيدة الطهر والقداسة الصديقة الحوراء زينب صلوات ربي عليها...ونحن لم نعثر على الزيارة في كتاب ذخيرة المعاد وإنما نقلناها من كتاب( وفيات الأئمة عليهم السلام ص ٤٨٤) لمؤلف مجهول لم يذكر إسمه الفردي بل ذكره تحت إسم علماء البحرين والقطيف.
وقد نقلها من كتاب لمؤلفه الشيخ أحمد فهمي الذي نقلها من كتاب( ذخيرة العباد).
   ومهما يكن الامر: إن الزيارة ليس لها سند تاريخي يدل على أن الزيارة من نصِّ المعصوم عليه السلام...فالأمر مشكوك من حيث النسبة السندية الى الإمام المعظَّم القائم أرواحنا لنعله الفداء..وعند الشك في النسبة لا يصح أن ننسبها إلى الإمام عليه السلام..ولا يعني هذا سقوطها عن الزيارة بها، بل ينبغي الزيارة بها ولكن من دون ان يقرأ الزائر الجملة المذكورة، أو يقرأها ولكن بالتوجيه الذي ذكرناه في الوجهين السادس والسابع...ومن المقطوع به عندنا أن قبرها هو في قرية الراوية في الشام وليس في مصر ولا المدينة..فما ذكره الكاتب الخويلدي من أن قبرها في الشام حقٌّ وصواب، ولا غبار عليه..فالإشكال متوجهٌ على الفقرة التالية وهي: (السلام عليك أيتها المتحيّرة في وقوفك في القتلى) فالإشكال يكمن في هذه الفقرة من ناحية، وفي مدى صحة نسبة إنشاء الزيارة للإمام الحُجَّة القائم عليه السلام من ناحية أُخرى..
  وقد قلَّد أخونا العزيز الخويلدي الكاتبَ المصري أحمد فهمي الذي بدوره قلَّد  صاحب كتاب (ذخيرة المعاد) بحسب ما أشار إليه صاحب كتاب (وفيات الأئمة عليهم السلام)، وهي مشكلة عويصة بحاجةٍ إلى حلٍّ علميّ لكي لا نقع في التيه ونسبة ما لا يصح نسبته إلى الإمام الحُجَّة القائم (أرواحنا لشسع نعله الفداء) إلَّا بدليلٍ علمي...
    وأمَّا الجواب التفصيلي فمن ستة وجوهٍ هي ما يلي:
       الوجه الأول: سند الزيارة المفجعة غير معلوم النسبة عن الإمام الحُجَّة القائم صلَّى الله عليه وآله.
      إن النسبة الصدورية – أي السند – غير معلومة الصدور عن إمامنا المعظَّم صاحب العصر والزمان صلَّى الله عليه وآله، والبحث في الجهة الصدورية مهم في بعض الأحيان وليس في أكثر الأحيان كما أوضحناه في بحوثنا الأُخرى، فالمهم هو الجهة التصديقية التي نريد استكشافها من دلالة النصّ المنسوب إليهم صلَّى الله عليهم، فدراسة مضمون الخبر وفقه الحديث متقدّم رتبةً على دراسة سند الرواية، فالتركيز على جهة الصدور من دون النظر إلى مضمون الخبر تعتبر من الظواهر السقيمة المتفشية في عصرنا الحاضر كما كانت متفشية في عصور المتقدمين لا سيَّما مسلك العلماء من الحشوية الذين كانوا وما زالوا يأخذون بكلّ خبر ولا يعتنون بمضمونه..فالبحث في جهة الصدور إنَّما تكون حُجَّةً فيما لو تطابقت مع حُجيّة المضمون، فالمهم هو المضمون المتوافق مع القرائن الخارجية المثبتة لصحة الجهة الصدورية المنسوبة إلى المعصوم عليه السلام، ولنفرض جدلاً أن الزيارة المفجعة صدرت عن الإمام القائم المهدي عليه السلام إلَّا أننا نريد الإطمئنان بأنها حقيقةً قد صدرت عنه أرواحنا له الفداء..وإلَّا سوف تفلت زمامُ الأمور وتكثر الدعاوى في كثير من الأمور الفقهية والعقدية لإثبات بعض الأحكام التي لا تتوافق مع المنهج العقائدي الذي وصلنا من أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، فلا بُدَّ - والحالة هذه - من عرض مضمون الخبر المنسوب إلى الحجج الأطهار صلَّى الله عليهم أجمعين على مصادر التشريع لنرى إنْ كان متوافقاً معها أو معاكساً لها كما أمرونا عليهم السَّلام ..فيجب علينا أولاً أن نبحث في مضمون الخبر وإثبات صحة مضمونه ثم بعد ذلك يأتي دور البحث عن صدوره من المعصوم عليه السلام..والزيارة المفجعة هي كغيرها من النصوص التي يبحث الفقهاء في مضمونها أولاً ثم يبحثون في جهة صدورها، فلا يهمنا السند في أي خبر كان بمقدار ما يهمنا الدلالة وذلك لأن الأحاديث الملفقة على آل محمد عليهم السلام كثيرة جداً بالرغم من صحة أسانيدها، من هنا كان مسلك حجية المضمون والخبر الموثوق الصدور هو الحُجَّة التي يجب إتباعها في عملية استنباط الأحكام من النصوص المتوافقة مع الأدلة القطعية..فنحن لسنا حشويين لكي نأخذ بكلّ خبرٍ يُنسب إلى آل محمد عليهم السلام، وقد أسهبنا في تفصيل ظاهرة الحشوية القديمة والجديدة في بحثنا القيِّم في  الفصل الأول من كتابنا (الحقيقة الغراء في عصمة الصديقة الكبرى زينب الحوراء على مريم العذراء عليهما السلام) فلتُراجَع لأهميتها في فهم مرادنا..وكان من الواجب على الكاتب (سعيد الخويلدي) أن يوفر علينا جهد التنقيب عن الجهة الصدورية المنسوبة إلى الإمام الحُجَّة القائم صلَّى الله عليه وآله حتى نطمئن ويطمئن كلّ من طالع ما ادَّعاه أخونا العزيز...ذلك لأن ذكر المصدر في الكتب العلمية والتاريخية مهم جداً على الصعيدين العقلي والروحي..ولا تُلقى الدعاوى جزافاً فيؤدي إلى التشويش والخلل العلمي..
    وبناءً على ما أشرنا إليه: ثمة خللٌ بَدْوي في فقرة من فقرات الزيارة المفجعة وهي (السلام عليك أيتها المتحيّرة في خرابة الشام) بالرغم من وجود نسخة أخرى إستبدل فيها جملة (خرابة الشام ) بجملة ( السلام عليك أيتها المتحيرة في وقوفك في القتلى ) فلا ندري أيهما يقصد المعصوم عليه السلام على فرض صدورها من إمامنا الحُجَّة القائم صلوات ربنا عليه وآله..؟ فلا يُتَصوَّر صدور نسختين متعارضتين منه عليه السلام لا سيَّما وأنَّه في مقام بيان تعليمنا كيف نخاطب عمته الصديقة المعظمة زينب عليها السلام خلال زيارتنا لها..! فلا بد أن إحدى الفقرتين غير صادرتين منه في آن واحد أو متفرق إلَّا إذا قلنا بأن عمته الطاهرة زينب صلوات ربنا عليها كانت متحيرة في كربلاء وفي الشام معاً..ولو صدرت الفقرة بنسختيها من الإمام صلوات الله عليه وآله لكان أشار إليهما من خلال اللقائين له مع الناقلَينِ للزيارة..والإجمال في كلمة (المتحيرة) تلزمنا بالبحث الدقيق حول معناها الذي يليق بشخص عمته الصدّيقة المطهرة صلوات الله عليها وأهل بيتها، فإذا عثرنا على معنى مناسبٍ لكلمة (المتحيِّرة) أخذنا به وإلَّا فلا تكون حُجَّةً علينا فنضطر إلى التنحي عنها مع إلتزامنا ببقية فقرات الزيارة الخاصة بعمته الحوراء المطهرة صلوات ربنا عليها..
     هذا بالإضافة إلى أنَّه هل يصح أن ننسب إليها التحير من دون إثبات ظاهري معتمد على صحة ما نُسِب إلى الإمام الحُجَّة القائم أرواحنا له الفداء..؟؟ ولو ثبت لدينا بالقطع واليقين – لا بالظنّ والتخمين - صحة الصدور من الإمام القائم صلَّى الله عليه وآله بحقّ عمته المطهرة فلا نتردد بإمضائه أصلاً، بل نتمسك به بقوة فنمضيه مطمئنين إلى ما يقوله الإمام المعظَّم المهدي من آل محمد صلَّى الله عليهم أجمعين، فأهل البيت صلَّى الله عليهم أجمعين هم أدرى ببيوتهم، وأهل مكة أدرى بشعابها..ولكن هيهات أن ننسب إليهم شيئاً فيه غضاضة إليهم وهم من أهل بيتٍ لا يُقاسُ بهم أحدٌ من الخلق بالصبر واليقين والتسليم والمناقب والمفاخر..فالزيارة المفجعة تامة بعامة فقراتها إلَّا الفقرة التي أشرنا إليها، وينبغي على المؤمنين أن يزوروا بها مولاتنا الصدّيقة الطاهرة زينب صلى الله عليها وآلها الطاهرين من دون الفقرة المتنازع عليها المتقدّمة الذكر..ففقراتها مطابقة لأدلة العصمة الزينبيّة وفيها ما يدل على أنها معصومة وهي شبيهة أُمّها وأبيها وإخوتها المعصومين الإمامين الحسنين والمولى المعظَّم أبي الفضل العباس صلوات ربي عليهم أجمعين..
  الوجه الثاني:التحيُّر هو الإضطراب والنسيان.
 المتحيرة هي الناسية والمضطربة التي يتشوش عقلها ويتعكر مزاجها؛ وقد ورد استعمالها في أقسام العادة عند الحائض، فلا تعرف وقتَ حيضِها وعددِه، فسمُّوها بالضالة والمتحيرة لتحيرها في أمر حيضها..وهو معنى لا يصح انطباقه على مولاتنا الصدِّيقة زينب عليها السلام كما جاء في زيارتها المعروفة – موضوع البحث - التي نميل إلى أنَّها من تأليف بعض العلماء، ولا يجوز التعبد بما نسبوه إلى سيّدة الطهر والقداسة الحوراء الصدّيقة زينب (سلام الله عليها) عن جهلٍ وقصور علمي...!!
   الوجه الثالث:التحيُّر يستلزم الغفلة .
  إنَّ التحيُّر والحيرة من لوازم الغفلة والتردد كما نصَّ على ذلك اللغويون في مادة حير وحار وتحيَّر وحيران..وكلّها ألفاظ تدل على معنىً جامع بينها هو: التردد في الرأي وعدم الإهتداء إلى السبيل..إلخ. قال إبن منظور في لسان العرب ج 4 ص 222 مادة "حير": حار بصره يحار حيرةً وحيراً وحيراناً وتحيَّر: إذا نظر إلى شيء فعشيَ بصره أي ساء بصره بالليل والنهار..ورجل حائر: إذا لم يتجه لشيء، وحار حيرةً وحيراً أي تحيَّر في أمره، وحار الماء أي تردد ورجع أقصاه إلى أدناه؛ والحائر: كربلاء، أو المكان المطمئن يجتمع فيه الماء فيتحيَّر لا يخرج منه وتحيَّر الرجل: إذا ضلَّ فلم يهتدِ لسبيله وتحيَّر في أمره..إنتهى ملخصاً. 
     تعقيبنا على كلام إبن منظور: من شدة نصب إبن منظور لم يصرح بالحائر العباسي لئلا يقرَّ بالكرامة والمعجزة لمولانا الوليّ المعظَّم أبي الفضل العباس عليه السلام لذا عبّر عن الحائر بكربلاء..ولكنَّ الأمر ليس كذلك، إذ ليست كربلاء بكلّ شعابها يحور فيها الماء بل الحور مقتصرٌ فقط على قبر المولى المعظَّم العباس بن أمير المؤمنين عليّ عليهما السلام.  
   وبناءً على ما تقدَّم: إنَّ من المعروف والمشهور بين العقلاء أن التحيُّر هو من فساد الرأي، فلا يُعقَل إتصاف عقيلة الهاشميين به، وقد لُقبَت بالعقيلة لتعقلها للأمور، وهو عكس التحيّر والحيرة..فتدبر.
    الوجه الرابع: المعاني العرفيَّة المحتملة للفظ (المتحيِّرة) .
    إن العرف يفهم من كلمة (متحيِّرة ) ثلاثة معانٍ محتملة هي التالي:
    (المعنى الأول): أنَّها كانت مضطربة ومترددة في أمرها بين القتلى كما في نسخة (ذخيرة العباد)، أو المتحيرة في خرابة الشام كما في النسخة المتداولة في حرمها الشريف، والتحيُّر خلاف الصبر والتعقل، وهو مذمومٌ لغةً وعرفاً وشرعاً، فقد ورد في معاني صفاتها وجلالة أمرها ما هو فوق التصور البشري، فهي العالمة غير المعلَّمة والفهمة غير المفهَّمة على حدّ تعبير إبن أخيها المولى الإمام المعظَّم السجاد علي بن الإمام المعظَّم الحسين عليهما السَّلام..فمن كانت ألقابها وكناها بأنَّها عقيلة الهاشميين والصابرة والراضية المرضيّة وأم المصائب والرزايا والصدّيقة والعالمة الحكيمة، والفهمة المفهمّة والمحدَّثة والملهمة، وسيّدة النسوان والمجاهدة..كيف يُعقل أن ننسب إليها أنها كانت متحيرة بين القتلى أو في خرابة الشام..؟! بالرغم من أن الروايات الكاشفة عن صبرها وتسليمها في اليوم العاشر من محرم ليس فيها ما يدل على طيشها وعدم رزانتها وغفلتها وقلة صبرها وترددها واضطرابها ..حاشا لنعليها الشريفتين!!
     (المعنى الثاني):إن تحيُّرَها هو بمعنى ترددها في إختيار من يجب أن تراه أولاً على أرض الطف بعد انجلاء الملحمة العظمى، فهل تختار أخاها الإمام الحسين عليه السلام أولاً أم أخاها الوليّ المعظَّم أبي الفضل العباس عليه السلام..؟
     والجواب: الأمر واضح في انتخابها الإمام الحسين عليه السلام أولاً ثم المولى العباس عليه السلام ثانياً، وذلك لحيثيتين محتملتين هما:
     الحيثية الأولى الروحية:إن الإمام الحسين عليه السلام هو الإمام المتقدم على غيره من المعصومين عليهم السلام، والمولى وليّ الله أبي الفضل العباس عليه السلام معصوم ولكنّه ليس إماماً من الأئمة الإثني عشر المنصوص عليهم بالأخبار الشريفة، فهو تالي الإمام المعصوم؛ فعدم إمامته ليست نقصاً فيه (حاشاه) بل لأن الله تعالى خلقه إستجابة لطلب أمير المؤمنين عليّ صلَّى الله عليه وآله في أن يهبه ولداً يكون ظهيراً للإمامة وحامياً لأخيه الإمام الحسين عليه السلام، وكلُّ ذلك مقدَّر عند الله تعالى، تماماً كما خلق الله تعالى وليَّ الله الخضر عليه السلام حامياً وخادماً للإمام المعظم المهدي من آل محمد صلوات ربي عليهم أجمعين.. فالأولوية والأفضلية للإمام المعظَّم سيّد الشهداء أرواحنا لشسع نعله الفداء من هذه الحيثية بالرغم من كونهما – أي الإمام وأخيه وليّ الله العباس عليهما السلام – نفساً واحدة من جهة العصمة والطهارة المطلقتين..يرجى التأمل فإنه دقيق.
  الحيثية الثانية المكانية: إن مكان مصرع أخيها الإمام سيّد الشهداء عليه السلام كان أقرب إلى مخيم النساء الطاهرات من مكان مصرع أخيها المولى المعظم أبي الفضل العباس عليه السلام، فبطبيعة الحال لقد اختارت الأقرب على الأبعد..نعم لقد هرعت فديتها بروحي إلى مصرع أخيها أبي الفضل عليه السلام لما رأت بنات الإمام الحسين ونساءه اجتمعن حول جسده الشريف بكت وهرعت إلى أخيها العباس كفيلها وحبيب قلبها..آهٍ ثم آهٍ من وجْدِك مولاتي وسيدتي يا زينب..هذا المشهد فطَّر قلبي ومزق أحشائي عندما كتبته لأنني تذكرت تلك اللحظات التي مرت فيها سيدتي الصديقة تحتضن حبيب قلبها العباس الذي لم يكن حوله من يواسيه بدمعة..كان غريباً لوحده..آهٍ ثم آهٍ من تلك الغربة حيث التقى الأخ الغريب مع أخته الغريبة في صحراء كربلاء والكوفة والشام...!!
    (المعنى الثالث): هو أن تكون حيرتها بضعف تمييزها فلان عن فلان من شهداء آل محمَّد صلوات الله عليهم بسبب قطع رؤوسهم..!!
  وهذا الإحتمال ساقط من رأسه؛ وذلك لأنها ليست إمرأةً عاديةً حتى تعجزَ عن التمييز بين الأجساد الطاهرة، وبالتالي نسقط على جنابها مفهوم التحيُّر المذموم، وهو خُلْف كونها معصومة مسددة وملهمة وصابرة ومدركة..بل الصواب هو أن نقول إنَّها كانت تعرفهم من خلال طريقين هما:
     الطريق الأول الطبيعي:أنّها كانت تعرفهم بالسبل العادية والأسباب الطبيعية من خلال معرفتها لأعمارهم ومن ألبستهم التي كانت عليهم قبل الشهادة، فكيف لا يمكنها التمييز بينهم فتصبح حائرةً..؟؟! فعليٌّ الأكبر والقاسم وأخوه أحمد وهكذا بقية إخوتها من أبيها كانت تعرفهم من شمائلهم وسني أعمارهم..هذا بناءً على أن يكون عامة الشهداء من بني هاشم مطروحين على ساحة القتال، ولكن الأخبار تشير إلى أنهم كانوا مجموعين في مخيم خاص للشهداء، إذ كلما سقط شهيد يأمر الإمام الحسين عليه السلام بوضعه في المخيم..فترتفع الحيرة من الأساس.
    الطريق الثاني الإلهامي:أنَّها كانت تعرفهم بالتوسم والسيماء والإلهام والتفرس، فهي ترى أرواحهم وأنوارهم..فضلاً عن النقر في الأسماع والوقر في القلوب التي حباها الله تعالى به كما حبى غيرها من الصدِّيقات كأُمّ موسى ومريم بنت عمران وسيدتنا المعظمة فاطمة بنت أسد وأم المؤمنين خديجة عليهنَّ السلام، فكونها صدِّيقة معصومة يستلزم أن تكون ملهمة وعارفة، إذ لا بخل في ساحة الربوبية لمن عرف الله تعالى منه الإيمان والتصديق، وبالتالي فإن الله تعالى لا يمنع عنها بما أجاد به على غيرها مع أنها أفضل من غيرها عصمة وطهارة ومنبتاً وحسباً ونسباً وشرفاً وكرامةً..للمستفيض المعروف (إنَّا أهل بيت لا يُقاس بنا أحدٌ..)؛ فإذا كان أبو هارون المكفوف ذا منزلة بالفراسة والإلهام والكشف الشهودي لرؤية الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام بالرغم من أن أبا هارون كان أعمى، فلِمَ لا تكون هذه المنقبة والفضيلة والمكرمة لمن هي أفضل من أبي هارون المكفوف.. وأين الثرى من الثريا..؟؟!! لقد روى لنا قطب الدين الراوندي عن أبي بصير قال: دخلت المسجد مع الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام والناس يدخلون ويخرجون، فقال لي: سل الناس هل يرونني ؟ فكل من لقيته قلت له: أرأيت أبا جعفر ؟ فيقول: لا، وهو واقف حتى دخل أبو هارون المكفوف، فقال عليه السلام : سل هذا (أي أبا هارون المكفوف) فقلت: هل رأيت أبا جعفر عليه السلام ؟ فقال: أليس هو قائم ؟ قلت: وما علمك ؟ قال: وكيف لا أعلم وهو نور ساطع . راجع البحار ج 46 ص 243 ح 31 . الخرايج والجرائح ج 2 ص 596 ح 7.
  وروى الراوندي عن إمامنا الصادق عليه السلام عن أبيه الإمام الباقر عليه السلام في خبر طويل قال عليه السلام: "نحن الشجرة التي قال الله تعالى (أصلها ثابت وفرعها في السماء) نحن نعطي شيعتنا ما نشاء من علمنا..". الخرايج ج 2 ص 597 ح 8.
   وأبو هارون رضي الله عنه وأرضاه قد أعطوه من علمهم وأنوارهم، فكان يرى بروحه الطاهرة الإمامَ الباقر عليه السلام ولا يحتاج إلى عينين، بينما مولاتنا المطهرة زينب صلوات الله عليها –بحسب الفقرة المتقدمة الذكر - متحيرة لا تستطيع تمييز الأجساد المطهرة لإخوتها الشهداء المجزرين على أرض كربلاء، أو لا تستطيع اتخاذ موقفٍ حاسم ليخرجها من الحزن والإضطراب..!! فإذا ما كان الأمر بهذه السهولة..فكيف فوَّضها الله تعالى على مسيرة قيادة السبايا والنيابة عن الإمام زين العابدين عليه السلام..؟! 
    فهي حجَّة الله تعالى، وحجيتها كحجية جدّها وأبيها وأمها وإخوتها..وكحُجيَّة النبيّ عيسى وأمّه، وزينب الصدّيقة الحُجَّة لا تحتار ولا تتردد ولا تغفل ولا تضطرب برؤية إخوتها وأهل بيتها مجزرين على تراب كربلاء..! بل من كان حُجَّةً إلهية لا يصيبه ذهول وغفلة..لأنه آية من آيات الله تعالى؛   جاء في إكمال الدين للصدوق ج 1 ص 18 بإسناده عن علي بن أحمد بن موسي رحمه الله قال:حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي قال: حدثنا موسى بن عمران النخعي، عن عمه الحسين بن يزيد، عن علي بن أبي حمزة عن يحيى بن أبي القاسم قال: سألت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام عن قول الله عزَّ وجلَّ " ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب" فقال:( المتقون) شيعة علي عليه السلام والغيب: فهو الحجة الغائب؛ وشاهد ذلك قول الله عزَّ وجلّ :" ويقولون لولا أُنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين "فأخبر عزَّ وجلَّ أن الآية هي الغيب، والغيب هو الحُجَّة، وتصديق ذلك قول الله عزَّ وجلّ "وجعلنا ابن مريم وأمَّه آية ": يعني حجة.  
  فقد فسَّر إمامنا المعظَّم جعفر الصادق عليه السلام معنى كون المسيح وأمه آية بأنها: الحُجَّة..فهما حجتان من عند الله تبارك اسمه، وبطريق أولى تثبت الحُجيَّة لمولاتنا فاطمة الزهراء البتول وابنتها زينب صلَّى الله عليهما..ذلك لأن آل محمد صلَّى الله عليه وآله لا يُقاسُ بهم أحدٌ من العالمين على الإطلاق..فمولاتنا زينب وأختها، والبقية من أخوات الإمام الحسين وبناته من نسوة أهل البيت عليهم السلام لا تُقاس بواحدة منهنّ واحدة من نساء العالمين..
     بالإضافة إلى ذلك: فإن أصحاب المقاتل يذكرون أنها عليها السَّلام كانت أول الخارجين من خيمتها ومعها سكينة عليها السلام ثم لحقهما بقية النسوة الطاهرات..ولم تفقد واحدةٌ منهنَّ رشدَها ولم تصبها الحيرة المستلزمة لضعف التمييز وقلة الإدراك..بل إن سيّدتنا المطهرة الصدّيقة زينب (روحي فداها) لما سمعت صهيل فرس الإمام الحسين عليه السلام وتغيَّر الكون واسودت السماء..خرجت واضعةً يدها أو يديها  على رأسها ونادت: (وا محمداه، وا جداه ! وا نبياه ! وا أبا القاسماه، وا علياه! وا جعفراه! وا حمزتاه ! وا حسناه! هذا حسينٌ بالعراء صريعٌ بكربلاء مجزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والرداء، ثم أُغشي عليها..صلوات ربي عليها..بل إن فقرات الزيارة القائمية المهدوية على صاحبها آلاف السلام والتحية صريحة في خروج جميع النسوة من الخيام ومجيئهن إلى ما يقرب من المصرع ومشاهدتهنَّ كيفية الشهادة، فقال الإمام المهدي صلَّى الله عليه وآله: ( وأحدقوا بك من كل الجهات، وأثخنوك بالجراح، وحالوا بينك وبين الرواح، ولم يبق لك ناصر ، وأنت محتسب صابر، تذب عن نسوتك وأولادك حتى نكسوك عن جوادك ، فهويت إلى الأرض جريحاً ، تطؤوك الخيول بحوافرها ، وتعلوك الطغاة ببواترها ، قد رشح للموت جبينك، واختلفت بالانقباض والانبساط شمالك ويمينك ، تدير طرفاً خفياً إلى رحلك وبيتك ، وقد شغلت بنفسك عن ولدك وأهلك، وأسرع فرسك شارداً، والى خيامك قاصداً، محمحماً باكياً؛ فلما رأين النساء جوادك مخزياً ، ونظرن سرجك عليه ملوياً ، برزن من الخدور، ناشرات الشعور على الخدود، لاطمات الوجوه، سافرات، وبالعويل داعيات، وبعد العز مذللات، والى مصرعك مبادرات والشمر جالس على صدرك، مولغ سيفه على نحرك، قابض على شيبتك بيده، ذابح لك بمهنده، قد سكنت حواسك ، وخفيت أنفاسك ، ورفع على القنا رأسك ، وسبي أهلك كالعبيد ، وصفدوا في الحديد ، فوق أقتاب المطيات ، تلفح وجوههم حر الهاجرات ، يساقون في البراري والفلوات ، أيديهم مغلولة إلى الأعناق ، يطاف بهم في الأسواق..).
     توضيح: مراده صلوات الله عليه وآله من قوله: (برزن من الخدور ناشرات الشعور..) أي خرجن من خيمهنَّ ناشرات شعورهنَّ من دون أن يراهنَّ ناظر من الأعداء وذلك لأن المخيم كان على مرتفع عالٍ محاط بالكثبان الرملية صنعه الإمام الحسين عليه السلام حفاظاً على عياله من عيون الأعداء..
    وروى العلامة المجلسي رحمه الله عن حميد بن مسلم فقال: (ثم أخرجوا النساء من الخيمة، وأشعلوا فيها النار، فخرجن حواسر مسلبات حافيات باكيات، يمشين سبايا في أسر الذلة، وقلن بحق الله إلَّا ما مررتم بنا على مصرع الحسين، فلما نظرت النسوة إلى القتلى، صحن وضربن وجوههن قال: فوالله لا أنسى زينب بنت علي عليه السلام وهي تندب الحسين وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب: وا محمداه صلَّى عليك مليك السماء، هذا حسين مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى، وإلى محمد المصطفى، وإلى عليّ المرتضى وإلى حمزة سيّد الشهداء، وا محمداه هذا حسين بالعراء، يسفي عليه الصبا، قتيل أولاد البغايا، يا حزناه يا كرباه، اليوم مات جدي رسول الله، يا أصحاب محمداه، هؤلاء ذرية المصطفى يساقون سوق السبايا  .
   والمراد من الحواسر: هو مكشفات الوجوه لا أنهنَّ كاشفات الرؤوس..فمعنى حاسرة لغةً هو: من كشفت الخمار عن وجهها..فقد سُلِبن من خمرهنَّ أي أقنعتهنَّ المسدلة على وجوههنَّ..!! وفرق بين المقنعة والقناع، فالمقنعة هي ما يغطي الشعر بينما القناع هو ما يسدل من الرأس على الجبين والأنف والفم، وقد أشرنا إلى ذلك في كتابنا (إتحاف ذوي الإختصاص..صفحة 151 إلى ص 156 ) . 
     وفي بعض الروايات: يا محمداه بناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفي عليهم ريح الصبا، وهذا حسين مجزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والرداء ، بأبي من عسكره في يوم الاثنين نهبا، بأبي من فسطاطه مقطع العرى، بأبي من لا هو غائب فيرتجى، ولا جريح فيداوى، بأبي من نفسي له الفداء، بأبي المهموم حتى قضى، بأبي العطشان حتى مضى، بأبي من شيبته تقطر بالدماء، بأبي من جده رسول إله السماء، بأبي من هو سبط نبي الهدى ، بأبي محمد المصطفى ، بأبي خديجة الكبرى بأبي علي المرتضى ، بأبي فاطمة الزهراء سيدة النساء ، بأبي من ردت عليه الشمس حتى صلَّى قال : فأبكت واللهِ كلَّ عدوٍ وصديق ثم إن سكينة اعتنقت جسد الحسين عليه السلام ، فاجتمع عدة من الاعراب حتى جروها عنه..). بحار الأنوار ج 45 ص 58 و59 .
   والحاصل: إن مولاتنا الصدّيقة المعظَّمة زينب صلوات الله عليها جاءت إلى مصرع أخيها الإمام الحسين عليه السلام قبل شهادته لما سقط على الأرض فجاء الشمر ولكزها بسيفه فأغمي عليها - كما هو مشهور على ألسن القراء ولا يبعد ذلك - فالشاهد أنها لم تكن متحيرة عندما هرعت إلى أخيها الإمام الحسين بعد مفروغية شهادة أخيها أبي الفضل العباس على شاطئ العلقمي..بل وقفت روحي فداها على جثمان أخيها العظيم الشأن أبي عبد الله الحسين عليه السلام الذي مزقته السيوف والرماح والسهام، وصارت تطيل النظر إليه باكية صابرة رافعة طرفها نحو السماء مكسورة القلب تدعو بحرارة الحزن: ( اللهم تقبّل منّا هذا القربان ) فأي صبر يماثل صبر الصديقة زينب الحوراء..؟ لقد كانت سيدتنا الطاهرة زينب صلوات الله عليها جبلاً شامخاً لا تهزه عواصف المحن والرزايا..هي والله التي رفعت راية الإسلام بعد شهادة أخويها وأهل بيتها الأطهار..وهي التي حفظت الإمامة والإمام السجاد ومن أنجب من الأئمة الأطهار عليهم السلام..آهٍ من لوعتك يا بنت أمها فاطمة وأم أبيها عليّ..إنَّها زينب.. زينة أبيها وأمها وذويها..!!
   الوجه الخامس: عند دوران اللفظ بين معانٍ متعددة يحمل على المعنى الرائج فيه . 
   عند إطلاق كلمة (متحيرة) ومشتقاتها دون نصب قرينة على المراد، نحمل اللفظ على ما يتبادر من المعنى الرائج فيه وهو التردد وعدم الإهتداء إلى سواء السبيل والطريق، فالمعنى العرفي من كلمة (متحيِّرة) هو المعنى الرائج في التردد والإضطراب وعدم الإهتداء للسبيل، ويشهد له ما جاء في أحد الأخبار الذامة لهذه الأمّة المنكوسة التي تصافقت على قتال الإمام سيِّد الشهداء عليه السلام؛ فقد روى عبد اللَّه بن لطيف التفليسيّ عن رزين قال: قال أبو عبد اللَّه الصادق عليه السّلام : (لمّا ضُرِبَ الحسين بن عليّ عليهما السلام بالسيف فسقط، ثمّ ابتدر ليقطع رأسه نادى مناد من بطنان العرش :( ألا أيّتها الأمّة المتحيّرة الضالَّة بعد نبيّها لا وفّقكم اللَّه لأضحى ولا فطر )؛ قال: ثمّ قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام:(فلا جرم واللَّه ما وفّقوا ولا يوفّقون حتّى يثورَ ثائرُ الحسين بن عليّ عليهما السلام ).
   فالحيرة هي التيه نفسه، كحيرة بني إسرائيل أربعين سنة في صحراء سيناء لا يعرفون ماذا يفعلون، فكانوا حيارى لا يدركون بعقولهم ولا يسمعون بآذانهم ولا يرون بعيونهم..صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون..
 وهو ما أكَّده مولانا الإمام جعفر الصادق عليه السلام..كما جاء في الكافي ج 2 ص 48 باب خصال المؤمن ح 3 بإسناده عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه عمن ذكره ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبيه ، عن الإمام أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : إنكم لا تكونون صالحين حتى تعرفوا ولا تعرفون حتى تصدِّقوا ولا تصدِّقون حتى تسلموا أبواباً أربعة لا يصلح أولها إلَّا بآخرها، ضل أصحاب الثلاثة وتاهوا تيهاً بعيداً، إن الله تبارك وتعالى لا يقبل إلا العمل الصالح، ولا يتقبل الله إلا بالوفاء بالشروط والعهود، ومن وفى الله بشروطه واستكمل ما وصف في عهده نال ما عنده واستكمل وعده، إن الله عز وجل أخبر العباد بطريق الهدى وشرع لهم فيها المنار، وأخبرهم كيف يسلكون، فقال : " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " وقال : " إنما يتقبل الله من المتقين " فمن اتقى الله عز وجل فيما أمره لقي الله عز وجل مؤمنا بما جاء به محمَّد صلَّى الله عليه وآله هيهات هيهات فات قوم وماتوا قبل أن يهتدوا وظنوا أنهم آمنوا، وأشركوا من حيث لا يعلمون إنه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى، وصل الله طاعة ولي أمره بطاعة رسوله ( صلَّى الله عليه وآله ) وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الامر لم يطع الله ولا رسوله وهو الاقرار بما نزل من عند الله: خذوا زينتكم عند كلِّ مسجد والتمسوا البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، فإنه قد خبركم أنهم رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله عز وجل وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والابصار ، إن الله قد استخلص الرسل لامره ، ثم استخلصهم مصدقين لذلك في نذره، فقال:" وإن من أمة إلا خلا فيها نذير "، تاه من جهل واهتدى من أبصر وعقل إن الله عز وجل يقول: " فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " وكيف يهتدي من لم يبصر ؟ وكيف يبصر من لم ينذر ؟ اتبعوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأقروا بما نزل من عند الله واتبعوا آثار الهدى، فإنهم علامات الأمانة والتقى، واعلموا أنه لو أنكر رجل عيسى ابن مريم  عليه السلام  وأقر بمن سواه من الرسل لم يؤمن ، اقتصوا الطريق بالتماس المنار ، والتمسوا من وراء الحجب الآثار ، تستكملوا أمر دينكم و تؤمنوا بالله ربكم .
      الوجه السادس: المتحيِّرة هي:(التائهة الثكلى ) .
   إن تحيُّر القوم الظالمين يعني شكهم واضطرابهم وضلالهم فلن يهتدوا للسبيل؛ وكلُّ ذلك بعيد عن ساحة المؤمنين المعتقدين بآل البيت عليهم السلام ، فضلاً عن سيدتهم مولاتنا الصدّيقة الحوراء زينب صلَّى الله عليها، فنقطع بعدم شمولها لكلّ معاني كلمة (متحيرة) إلَّا معنى واحد لعلّه يكون هو المقصود بجملة ( أيتها المتحيرة في وقوفك في القتلى..) وهو:( التائهة الحزينة من قوم حيارى) أي ضالين، فنخرج بنتيجة وهي: أنها كانت ثكلى فارةٌ من قوم ضالين، وهذا المعنى أشار إليه إبن منظور في لسان العرب قال: "حائر وحيران: تائه من قوم حيارى، والأنثى حيرى، وحكى اللحياني: لا تفعل ذلك أمُّكَ حيرى أي متحيرة، كقولك أمُّكَ ثكلى، وكذلك الجمع يقال: لا تفعلوا ذلك أُمّهاتكم حيرى.." أي ثكالى حزينات ضائعات لا يفكرن إلَّا بمن ثُكلن به من أحبائهن...
    يتلخص من معنى التائهة أمران:
   الأمر الأول: أنَّها كانت حائرة - تائهة - لا تفكر إلَّا بما جرى على أهل بيتها من الشهداء عليهم السلام..ناسية النساء والأطفال.
  الأمر الثاني: أنَّها كانت  متحيّرة أوحائرة:أي فارة من خيمة إلى خيمة تبحث عن الأطفال والنساء، فهي عقيلةٌ علويَّة فاطمية زينبية، جامعة للشتات عند النوائب الشداد، فهي كأمّها يوم اقتحم عمر بن الخطاب الدار عليها ورفسها على بطنها فأجهض جنينها وكسَّر أضلاعها ولم تولِ لنفسها أهمية بل كان جُلُّ همها هو الدفاع عن أمير المؤمنين علي عليهما السلام فخرجت من دارها بالرغم من آلامها وحزنها لتنقذ أمير المؤمنين عليَّاً عليه السلام فتاهت من دارها أي فرت من بيتها لاحقةً بالكافرين لتستنقذ بعلها الذي كبلته الوصيّة..وهكذا كان حال إبنتها الطاهرة سيدة نساء عصرها فلم تفكر بآلامها وحزنها ومصابها بل جُلُّ همها هو المحافظة على الإمام السجاد عليه السلام وجمع شتات الأطفال والنساء..آهٍ من إيثارك يا أُمَّ أبيها ويا وصيفة أمها..!!
  هذا هو الصحيح في معنى (المتحيّرة) ويشهد لهذا المعنى ما جاء عن أن أبا حمزة الثمالي رضوان الله تعالى عليه دخل يوماً على الإمام زين العبادين ( عليه السلام ) فرآه حزيناً كئيباً فقال له: سيّدي ، ما هذا البكاء والجزع ؟ ألم يقتل عمُّك حمزة ؟ ألم يقتل جدّك علي ( عليه السلام ) بالسيف ؟ إن القتل لكم عادة ، وكرامتكم من الله الشهادة ، فقال له الإمام عليه السلام : شكر الله سعيك يا أبا حمزة ، كما ذكرت ، القتل لنا عادة ، وكرامتنا من الله الشهادة ولكن يا أبا حمزة ، هل سمعت أذناك أم رأت عيناك أن امرأة منا أُسرت أو هُتكت قبل يوم عاشوراء ؟ والله يا أبا حمزة ، ما نظرت إلى عمَّاتي وأخواتي إلَّا وذكرت فرارهن في البيداء من خيمة إلى خيمة، ومن خباء إلى خباء، والمنادي ينادي أحرقوا بيوت الظالمين..).
  فيصدق على الفرار من خيمة إلى خيمة ومن خباء إلى خباء أنَّه تيهٌ وحيرةٌ أي جزع مما سيحصل عليهنَّ من الرزايا التي تهدُّ الجبال هدّاً..!
  الأمر الأول في معنى التائهة المحتارة غير لائق بجناب مولاتنا المطهرة زينب البتول أرواحنا فداها..فيتعين المعنى الثاني، وهو الصواب..وذلك لأننا عندما بحثنا في كلمة (تائه وتائهة) فلم نجد لها معنى يدل على القرار والسكينة بل كلُّ معانيها تصبُّ في خانة التردد والإضطراب وعدم الإهتداء..فالتيه لفظ مرادف للحيرة فلا يجوز أن نلصقهما   - أي التيه والتحيُّر - بعقيلة الهاشميين وشمسهم وقمرهم..فهي روحي فداها القمة في الصبر والتعقل والإدراك والجلال والسكينة والوقار..فلا يصلح أي تفسير في معنى التائهة سوى ثلاثة معانٍ هي ما يلي:
   الأول: الضالة عن القوم الظالمين..التي لا يُعرف قدرها عندهم لعنهم الله لعناً وبيلاً..
   الثاني:الفارة من خباء إلى خباء تجمع الشتات..
   الثالث: التائهة المدهوشة كما سوف يأتيكم في الوجه السابع.
   بهذا التفسير الذي لم يسبقنا إليه أحدٌ نكون قد وفقنا الله تعالى عبر التوسل المخلص بمولاتي الحوراء وأبيها وأمها عليهم السلام لكي أفهم مغزى الفقرة، فهدوني إلى ما خرجت به في هذه العجالة..شكراً لله تعالى ولهم صلوات ربي عليهم.. 
   الوجه السابع: أنَّها كانت ثكلى مدهوشة..!!
   ولو سلَّمنا جدلاً بالمعنى المتقدِّم في الوجه السادس عن إبن منظور ولكن بتهذيب المعنى اللائق بها وهو: أنَّها كانت ثكلى مدهوشة "أي متعجبة" ثكلى على أخويها العزيزين على قلبها هما الإمام الحسين والمولى أبي الفضل العباس عليهما السلام مع البقية الباقية من آل محمد عليهم السلام..ومدهوشة من أفعال المجرمين في كربلاء..وثكلها مع دهشتها لم يخرجاها من دائرة الإدراك والتعقل كما هو الحال في غيرها من النساء الثكالى، فإنَّهن يخرجن من إدراكهن ولا يعقلن بما يفعلن..تفسيرنا السابع مع سابقه السادس هو أصحُّ المعاني في تفسير كلمة (متحيرة)، وما سواهما دونهما خرط القتاد..
     ما هو السبب الداعي إلى الدهشة..!؟
    والجواب: إنَّ سبب دهشتها هو ما رأت من فظائع وأهوال عظيمة تفطّرت لها الصخور الصماء ودُكت لها الجبال دكاً وقد شاب شعرها المطهر روحي فداها في واقعة الطف لهول ما رأت وسمعت..فكيف لا يدخل شيءٌ من الدهشة والتعجب والإستغراب إلى قلبها الشريف، فها هو النبيُّ موسى عليه السلام قد خرَّ صعقاً لما نادى ربَّه عزَّ وجلَّ بلسان قومه ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) الأعراف 143. ولما رأى الثعبان ولّى مدبراً ولم يعقب ( وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) النمل 10.
    فهذا النبيُّ العظيم موسى بن عمران عليه السلام قد ولَّى مدبراً لما رأى العصا تحولت إلى ثعبان عظيم وهي آية من آيات الرَّحمان، فكيف سيكون حال مولاتنا المطهرة زينب لمَّا رأت المصائب والعظائم قد انصبت على قلبها الشريف من وحوش كاسرة خلت قلوبهم من الرحمة والشفقة، وقد تظاهروا بالإسلام وهم في الواقع أخبث من الزنادقة والذئاب والضباع..ذئبان الفلوات على حدِّ تعبير إمامنا المعظَّم سيّد الشهداء عليه السلام، فقد ورد في كامل الزيارات ص 157 باب 23 ح 194 عن شهاب بن عبد ربه ، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنَّه قال: (لما صعد الحسين بن عليّ (عليهما السلام ) عقبة البطن قال لأصحابه: ما أراني إلَّا مقتولاً، قالوا : وما ذاك يا أبا عبد الله ؟، قال: رؤيا رأيتها في المنام ، قالوا: وما هي؟ قال: رأيت كلاباً تنهشني، أشدّها عليَّ كلبٌ أبقع..).
  وقام خطيباً فقال: ( الحمد لله وما شاء الله ولا قوه إلا بالله خُطَّ الموتُ على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه ،كأني وأوصالي يقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن منى أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً لا محيص عن يوم خُطَّ بالقلم رضى الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين..). وعسلان الفلوات هم من تفنن في قتل الإمام سيِّد الشهداء..وقد استخدموا في قتله حدود سبعين وسيلة في فنون التعذيب..فهم الذئاب الضارية بصورة بشر..فكيف لا تندهش مولاتنا الحوراء زينب سلام الله عليها من أفعالهم الهمجية التي فاقت همجية وشراسة الذئاب المفترسة...!! والله لم نسمع عن همجيتهم في سنن الأمم الغابرة واللاحقة..!!
     وبالجملة: ما أشرنا إليه من الوجوه السبعة في تفسير الفقرة المتشابهة في معناها والتي هدانا الله تعالى إلى محكمها عبر التوسل بمولاي أمير المؤمنين علي والصديقتين فاطمة والحوراء زينب عليهم السلام كلُّه مبنيٌّ على نسخة صاحب ذخبرة العباد:( السلام عليك أيتها المتحيرة في وقوفك في القتلى)، وأمَّا بناءً على النسخة الأخرى المتداولة في حرم مولاتنا الصدِّيقة المطهرة زينب صلوات الله عليها، فقد كانت ثكلى مندهشة أيضاً في خرابة الشام بل في عامة أيامها كانت ثكلى إلى أن فارقت الحياة (أرواحنا لشسع نعلها الفداء) مهضومةَ الحق، مكسورةَ القلب، دامعةَ العينين، غريبة في بيداء العراق والشام وما بينهما من مدن وقرى فلا يُعرف قدُرها، فكأنها ضالةٌ عن الناس تماماً كجدِّها حينما خاطبه اللهُ تعالى ممتناً عليه ولله المنَّة والفضل بقوله عزَّ وجلَّ (ووجدك ضالاً فهدى..) أي وجدك ضالاً في قومك لا يعرفون قدرك وفضلك حتى هداهم إليك وعرّفهم قدرك..وهكذا حال مولاتنا الصدّيقة الحوراء صلوات ربي عليها كانت ضالةٌ – أي ضائعة مجهولة المقام عند الله تعالى والحجج الأطهار عليهم السلام - في قومها لا يعرفون قدرها حتى جاءت السنين والدهور فعرّفنا الله تعالى حقيقة الحوراء المطهرة زينب البتول كأمها سيّدة نساء العالمين الصدّيقة الكبرى فاطمة البتول عليهما السلام..بل لقد عرَّف الله تعالى قومها عنها يومذاك بأنها حافظة للإمامة والنبوة والولاية.. وقائمة مقام الإمام السجاد عليه السلام الذي أُمِرَ بالسكوت وأُمِرَتْ هي بالكلام..فوالله الذي لا إله إلا هو لولا تلك الحوراء الإنسية فاطمة البتول وابنتها الحوراء زينب شبيهة أمّها لما كان اخضر للإسلام عود ولا ثبت له عمود..زينب الصدّيقة الحوراء (فديتها بروحي) هي التي حفظت التشيُّع بعد أخويها العظيمين :الإمام الحسين وولي الله العباس صلى الله علهما وعليها..فلها فضل على الأمة..ولها فضل على حفظ الإمامة المتمثلة بوريثها الإمام السجاد عليه السلام..ولها فضل بالتصدي لجبابرة بني أمية كيزيد وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد والشمر..
    يبقى سؤال لا بُدَّ لنا من طرحه عن كيفية زيارتها وبأية زيارة نزورها غير الزيارة المعروفة في حرمها المطهر..؟
    والجواب: لا مانع من زيارتها بالزيارة المنسوبة إلى إمامنا القائم المهدي عليه السلام برجاء المطلوبية أي برجاء كونها صادرة منه ولكننا نتحفظ على الفقرة التي ناقشناها بوجوهٍ عديدة إلَّا على النحو الذي أشرنا إليه في الوجهين: السادس والسابع ومفادهما:أنها جامعة للشتات ومتعجبة مدهوشة من أفعال المجرمين الزنادقة؛ كما يستحب زيارتها بزيارة الجامعة الكبيرة أو الصغيرة فإن لها ما لغيرها من المعصومين إلَّا الإمامة..فهي الآية العظمى كأبيها وأمها، فهي من أهل بيت العصمة والطهارة ومن أبرز مصاديق الولاية لها ولأبيها وأمها وإخوتها.. وقد خلقها الله تعالى من نور عظمته وهي نور أبيها وأُمّها وجدّها وإخوتها المطهرين لا يفترقون عن بعضهم البعض أبداً..والله تعالى هو وليُّ الصالحين.
والحمد لله ربّ العالمين وسلام على سادة الخلق أجمعين رسول الله محمد وعلى آله الطيبين الأخيار المنتجبين..
يا قائم آلِ محمَّد أغثنا
كلبهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد
محمَّد جميل حمُّود العاملي
بيروت بتاريخ 27 رجب الأصب
1445 هجري قمري
  ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


 


  • المصدر : http://www.aletra.org/subject.php?id=2270
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2024 / 02 / 18
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 6