• الموقع : مركز العترة الطاهرة للدراسات والبحوث .
        • القسم الرئيسي : الفقه .
              • القسم الفرعي : إستفتاءات وأجوبة .
                    • الموضوع : التقية، أقسامها وموارد استعمالها، وما الفارق بينها وبين المداراة؟ .

التقية، أقسامها وموارد استعمالها، وما الفارق بينها وبين المداراة؟

بسم الله الرحمن الرحيم
 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لديّ هذه الأسئلة المهمة والملحّة:
في كتابكم القيّم الفوائد البهيّة عند تحدّثكم عن أقسام التقيّة ، كان كلامكم مختصرا كثيرا، فهلا تعمّقتم أكثر في جوابكم لنا في توضيح أقسام التقيّة وكيفيّة ممارستها عمليا بناء على أقسامها وأحكامها؟ والتفريق العملي بينها وبين المداراة وهل المداراة نوع من أنواع التقيّة؟ نرجو أن يكون جوابكم مفصلا وواضحا وبأمثلة نظرا لحساسية هذه القضية وكثرة الأخطاء الواقعة نتيجة الفهم الخاطئ وغير ذلك، وأيضا لما نراه من وجهاء المجتمعات والرموز الدينية والعلمية والثقافية وغيرهم من انكار للكثير من الثوابت والعقائد وغيرها تحت عنواني التقيّة والوحدة وعدم الحاجة إلى المشاكل وأننا في النهاية أمة واحدة ؟

 

الجواب:
 

بسمه تعالى
 

لقد أجبنا طلبكم المتقدّم ،فقد أسهبنا ببحث التقية والفرق بينها وبين المداراة في الطبعة الرابعة الجديدة لكتابنا الفوائد البهيَّة في شرح عقائد الإماميَّة/طبع مؤسسة الأعلمي/بيروت.. فليراجع،وهنا سنوضّح بالإجمال بعض ما سألتم عنه ضمن نقطتين:
(النقطة الاولى):توضيح الأقسام العمليّة للتقية وكيفيّة ممارستها.
(النقطة الثانية):الفرق بينها وبين المداراة.
واما النقطة الأولى فالكلام فيها مبتنٍ على الأحكام التكليفيّة الخمسة المتعلقة بالتقية وهي قد تتصف بالوجوب كما إذا ترتب على تركها مفسدة لا يرضى الشارع المقدّس بوقوع المكلف فيها كأنْ يعرّض نفسه للقتل من دون ترتب مصلحة أهمّ أو أنْ يعرّض الآخرين المتعلقين به في الخطر وما شابه ذلك،ولا يقاس هذا بما فعله سيّد الشهداء مولانا الإمام الحسين عليه السلام كما سوف نوضحه بعد قليل.
وقد تتصف التقية بالحرمة التشريعية والذاتية،فالتقية التشريعية المحرّمة كما لو أجبره الجائر على الصلاة خلف من نصبه إماماً للجماعة أو خلف رجلٍ آخر علمنا فسقه،فإنَّه إذا صلّى خلفه ناوياً بها التقرب والإمتثال فقد ارتكب محرَّماً  لا محالة لأنّ التقية تنادي بصورة الصلاة خلف الجائر أو الفاسق،وحيث إنَّّه يعلم ببطلانها وعدم كونها مأموراً بها حقيقة وواقعاً فلو أتى بها بقصد القربة كان ذلك محرّماً تشريعياً لا محالةونظيره ما إذا أتى بالعبادة تقيةً ــــ وفرضنا أنَّها غير مجزئة عن المأمور بها كما هو الأقوى عندنا فلا بدّ من إعادتها في سعة الوقت أو قضائها خارجه ـــ لانّ التقية إنّما تقتضي جواز العمل فقط ولا يقتضي الإجزاء عن المأمور به كما ذهب إليه جمع من فقهاء الإمامية ومنهم المحقق الهمداني ونظّر لها بالمسح على الخفين،فإنّه لو اتقى بذلك ومسح على خفيه تقيةً لم يجزِ له ان يقصد به التقرب والإمتثال لعدم كونه مصداقاً للمأمور به فلو قصد به ذلك كان محرّماً تشريعاً بل الواجب على المُجبَر للصلاة خلف العامي أن لا ينوي الإئتمام به بل عليه القراءة لنفسه على نحو لا يُسْمَع همسُه فضلاً عن صوته،لانَّ المستفاد من الروايات هو صورة الصلاة يحسبها العامة صلاةً وائتماماً بهم، ومن هنا لم يرد في الأخبار الشريفة عنوان الإقتداء بهم بل ورد عنوان الصلاة معهم لذا على المجبر تقيةً أن يدخل الصلاة معهم ويقرأ لنفسه كما أشرنا آنفاً،ولا دلالة في شيء من الروايات على أنّها صلاة حقيقية بل الوارد في بعضها:[..ما هم عنده عليه السلام إلاَّ بمنزلة الجدر..] وعليه فإنَّ الصلاة معهم ليست كالصلاة خلف الشيعي العادل بل إنّما هي صورة الإئتمام ليحسبوها كذلك من دون أن يسقط القراءة ولا غيرها من أركان وشرائط الصلاة لأنَّهم ليسوا إلاَّ كالجدار.
وأما التقية الذاتية المحرَّمة كما لو أجبره الجائر بقتل النفس المحترمة،فإنَّه لا يجوز له أن يقتلها تقيةً لما دل على أن التقية إنَّما شرّعت لحقن الدماء فإذا بلغت التقيةُ الدمَ فلا تقية،فإذا قتلها تقيةً ارتكب محرَّماً ذاتياً لا محالة،وقد يمثّل لذلك بقاعدة عامة مطردة:" بما إذا كانت المفسدة المترتبة على فعل التقية أشد وأعظم من المفسدة المترتبة على تركها" وهذا نظير ما إذا علم بأنَّه إن عمل بالتقية ترتب عليه إضمحلال الحقّ وإندراس الدين الحنيف وظهور الباطل وترويج الجبت والطاغوت،وإذا ترك التقية ترتب عليه قتله فقط أو قتله مع جماعة آخرين،ولا إشكال حينئذٍ في أن الواجب عليه ترك العمل بالتقية وتوطين النفس للقتل لأنَّ المفسدة الناشئة عن العمل بالتقية أعظم وأشد من مفسدة قتله،ومن هذا القبيل ما جرى على سيّد الشهداء الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام وأصحابه رضوان الله عليهم لقتال يزيد بن معاوية عليهما اللعنة فقد عرضوا أنفسهم الشريفة للشهادة وتركوا العمل بالتقية عن يزيد،وكذا أصحاب أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بل بعض علمائنا الأبرار كالشهيدين  الأول والثاني اللبنانييَن والتستري وغيرهم...   نعم ربما تكون المفسدة في قتله أعظم وأكثر كما إذا كان العامل بالتقية ممن يترتب على حياته ترويج الحق بعد الإندراس وإنجاء المؤمنين من المحن والشبهات ولم يكن ثمة من يقوم مقامه في دفعها.
 وقد تتصف التقية بالإستحباب وقد مثل له شيخنا الأنصاري رحمه الله تعالى بالمداراة مع المخالفين ومعاشرتهم في بلادهم وحضور مجالسهم وعيادة مرضاهم وغير ذلك مما لا يترتب أي ضرر على تركه بالفعل إلاَّ أن تركه كان مفضياً إلى الضرر على نحو التدريج، وكنا قد اعتمدناه في كتابنا الفوائد البهية ولكننا الآن عدلنا عنه لكون التقية متقومة بخوف الضرر،ولا ضرر في ترك المداراة،فهي خارجة عن مفهوم التقية بالمعنى الأخص ،والخبر الدال على الصلاة معهم وحضور مجالسهم مختصة بصورة خوف الضرر على تقدير تركها كما ذهب إلى ما قلنا بعض الفقهاء....
وبالجملة فإنَّ التقية متقومة بخوف الضرر الذي يترتب على تركها ومع العلم بعدم ترتب الضرر على ترك التقية ــــ كما في المداراة ــــ فلا يتحقق موضوع للتقية كما مر.
 فالصحيح أن يمثل للتقية المستحبة بالمرتبة الراقية من التقية لأنَّ لها ــــ كالعدالة وغيرها ـــ مراتب ودرجات متعددة حتى في الأمور المحتملة الضرر،ويمكن التنظير للتقية المستحبة بما جرى على عمار بن ياسر بناءً على ان التقية وقتئذٍ بإظهار البراءة اللفظية من رسول الله أرجح من تركها ومن تعريض النفس للهلكة والقتل،ولا تشمل ما جرى على ميثم التمار وحجر لأنّ التجاهر يومذاك بالولاء لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام أولى من كتمانه وأولى من البرائة اللفظية دون القلبية،وذلك لأنّ إقدام ميثم وحجر(أعلى الله مقامهما الشريف) على القتل هو علمهما بإنتفاء موضوع التقية في حقهما لأنّهما كانا سيُقتَلان على كلّ حال لمعروفيتهما بالولاء واشتهارهما بالتشيع والإخلاص لأمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله.
 وقد تتصف التقية بالمكروه وهي ما كان تركهاوتحمل الضرر أولى وأرجح من فعلها،وينظَّر لها بما إذا ترتب ضررٌ على أمرٍ مستحب كزيارة الإمام الحسين عليه السلام فيما إذا كانت ضررية بفعل تسلط الظالمين على الزائرين كما يحصل اليوم في العراق الحبيب،فإنَّ ترك التقية حينئذٍ بإتيان المستحب الضرري ـــ وهو هنا زيارته عليه السلام حتى مع وجود ضرر ــــ أرجح من فعل التقية.
 وقد تتصف التقية بالمباح كما لو كان التحرز عن الضرر وفعله متساوياً بنظر الشريعة المقدّسة،او كما قال الشهيد الأول في القواعد بأن المباح من التقية هي في المباحات التي يرجحها العامة ولا يصل بتركها ضرر،ونظّر لها الشيخ الانصاري بإظهار كلمة الكفر فيما لو تساوى الإظهار مع عدمه،لكنَّ السيّد الخوئي رحمه الله قد نظَّر لها على أحد الإحتمالات بما جرى على ميثم التمار رضي الله عنه حيث اعتبر التقية في حقه مباحة،كما أنَّه نظّر لها بما ورد في رواية عبد الله بن عطاء قال:قلت لأبي جعفر عليه السلام :رجلان من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما:ابريا عن أمير المؤمنين عليه السلام،فبرىء واحدٌ منهما وأبى الآخر فخلي سبيل الذي برىء وقتل الآخر فقال:اما الذي برىء فرجل فقيه في دينه وأما الذي لم يبرء فرجل تعجّل إلى الجنة" فقد دلت الرواية على جواز كلٍّ من التبري منه عليه السلام باللفظ تقيةً والتعرض للقتل،وأن كلاً من الرجلين من أهل الجنة وقد تعجل أحدهما إلى الجنة وتأخر الآخر،فقد يستفاد منها تساوي العمل بالتقية وتركها إلاَّ إذا استفدنا بدليلٍ آخر على أرجحية إختيار القتل على الحياة في مثل هذا المورد ولا يبعد ــ كما هو الأقوى عندنا ــ إختيار الموت على الحياة في مثله كما ورد في بعض الاخبار الشريفة من الأمر بمد الأعناق والنهي عن التبري منه عليه السلام ،وفي بعضها قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام" إنَّكم ستعرضون على سبي فإن خفتم على أنفسكم فسبوني..."فيحمل السب في حال الخوف على النفس على الإباحة وهذا نظير قوله تعالى:"وإذا حللتم فاصطادوا" أي إذا حللتم من إحرامكم فمباحٌ لكم الإصطياد لا انّه مستحب أو واجب والله العالم.
 

الفرق بين التقيَّة والمداراة:

 وأما النقطة الثانية أي الفرق بين التقية والمداراة فبتوضيح ما هو حاصل لغةً وإصطلاحاً من وجود فرقٍ بينهما دون أن يتفطن له كلّ من تطرق للبحث في التقية والمداراة،فالتدبر في معناهما تنجلى شبهة الدمج بينهما أو كون المداراة أحد أقسام التقية كما حصل عند الشيخ الانصاري رحمه الله تعالى،فإنَّ الوارد لغةً في معنى لفظ "مداراة" كما جاء في مجمع البحرين للطريحي هو الملاطفة والملاينة،وفي الحديث:"أمرت بمداراة الناس" "ورأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس" أي ملائمة الناس وحسن صحبتهم واحتمالهم لئلا ينفروا،وهذا ما أكدته الأخبار كما في صحيح السكوني عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):"ثلاث من لم يكنَّ فيه لم يتم له عملٌ:ورع يحجزه عن معاصي الله وخُلق يداري به الناس وحلم يردُّ به جهل الجاهل" فيفهم من هذا الحديث وأمثاله إستحباب مداراة الناس بقرينة قوله عليه السلام في صدر الحديث:"...من لم يكنَّ فيه لم يتم له عمل"حيث يستفاد منه أنَّ إتمام العمل إنَّما يتم بالمداراة،والإتمام ليس واجباً وإنَّما هو مستحب.وفي بعض الأحيان تكون المداراة واجبة وينظَّر له بحرمة سبّ المشركين وأمثالهم لئلا يسبوا الله تعالى أو أحد أوليائه عزَّ وجلَّ بمقتضى قوله تعالى:"ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم" فلا الناهية في الآية الشريفة تحرّم على المؤمنين سبَّ أصنامِ الكافرين والمنافقين لئلا يسبوا أولياء الله تعالى لكن لا يعني هذا حرمة اللعن،وذلك لوجود فرقٍ بين اللعن والسبّ،ففي الثاني توهين بخلاف الأول فإنَّه إبعاد عن رحمة الله تعالى فلا إشكال فيه إلاَّ إذا أدّى إلى لعن الأولياء فيحرم بالعنوان الثانوي دفعاً لغائلة أولئك الملاعين،والحاصل ثمة فوارق بين التقية والمداراة أهمها التالي:
(اولاً):إنَّ المداراة بعنوانها الأولي مستحبة،ولكنَّ التقية واجبة بالعنوان الأولي.
(ثانياً):المداراة لا يعتبر فيها خوف الضرر بخلاف التقية حيث يعتبر خوف الضرر من مقوماتها الاساسية.
(ثالثاً):المداراة نوع مجاملة وملاطفة إبتدائية ومن دون طلبٍ من الخصم ،بخلاف التقية فإنَّها دفع ضرر قد يحصل لو تُرك العمل بالتقية.
(رابعاً):المداري والمجامل لا يظهر الكفر بخلاف التقية فلا بدَّ من التظاهر بالكفر الذي عليه المخالف حتى يأمن المؤمن شرّه وكيده وضرره.فالمداري يسكت عن المخالفات الموجودة عند الخصم فلا يسب ـــ مثلاً ـــ حتى لا يسبّه الطرف الآخر،وهذا يختلف عن المتقي من العدو فإنَّه يبادر إلى النطق بكلمة الكفر حتى يأمن على دمه وعرضه،فهما على نقيض تام في بعض النواحي.
(خامساً):المطلوب في المداراة حسن الخلق مع العدو بخلاف التقية فإنّ حسن الخلق يكون راجحاً وليس واجباً بل يكفي فيها مجرد الموافقة مع الخصم وهي أعم من حسن الخلق،إذ قد يكون المرء ذا خلقٍ رفيع وقد لا يتصف بخلقٍ رفيع،فبينهما عموم وخصوص من وجه.
(سادساً):التقية بالمعنى الأخص مقتصرة على الأعداء العقائديين سوآء أكانوا من المخالفين أم من المشركين والكافرين،لكنَّ المداراة تشمل الاعداء والموالين.
(سابعاً):لقد فرّق المحدثون بين التقية والمداراة في كتبهم الحديثية فكانت أحاديث التقية في بابٍ لوحده،وأحاديث المداراة في بابٍ لوحده مما يعني وجود فرقٍ بينهما وإلاَّ فمن غير المناسب التفرقة بينهما بل كان الأنسب دمجهما معاً في بابٍ واحدٍ.
 

والحاصل أن التقية تختلف بطبيعتها عن المداراة،وعلى فرض كونها من أقسام التقية ولكنَّها قسم خاص من التقية بالمعنى الأعم الشامل للأمور التكوينية كمن يتقي من الداء بشرب الدواء لأن المداراة كما قلنا نوع ملاطفة لجلب النفع بالسكوت عن مسالب الخصم لتحصيل رضاه لجرِّه إلى الخير،والمعنى اللغوي العام لا يمكن قياسه على المعنى الإصطلاحي الخاص،فلكلٍّ موارده وإستعمالاته فلا يُخلط بينهما فتأمل جيداً،والسلام عليكم.

 


  • المصدر : http://www.aletra.org/subject.php?id=86
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 03 / 08
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16