• الموقع : مركز العترة الطاهرة للدراسات والبحوث .
        • القسم الرئيسي : الفقه .
              • القسم الفرعي : إستفتاءات وأجوبة .
                    • الموضوع : هل كان النبيُّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) يرعى الغنم قبل البعثة ؟ .

هل كان النبيُّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) يرعى الغنم قبل البعثة ؟

  الإسم: *****

النص: السلام عليكم 
  السؤال الاول: هل كان النبي الاكرم (صلوات الله عليه) راعياً للغنم ؟ 
  ثانيا: وهل كان فقيراً في بدايات حياته الشريفة؟ 
  ثالثا : ما هي مهنة نبينا الاكرم (صلوات الله عليه) ؟ 
  أرجو تبيان كل ما يتعلق بشأن هذه الاسئلة .
وفقكم الله لخدمة هذا الدين .  
والسلام

الموضوع الفقهي: هل كان النبيُّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) يرعى الغنم قبل البعثة ؟
   التفاصيل: ربط المخالفون بين فقر النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله) وبين رعيه للغنم قبل البعثة / قصة رعي الغنم ملفّقة / الأدلة على التلفيق/ النبيّ الأعظم لم يكن أجيراً لأحدٍ/ أصل القصة ملفَّقة مصدرها المخالفون/ موافقة مشهور علماء الشيعة للمخالفين من دون تدبرٍ / استعراض أقوال شواذ الإمامية حول رعي النبي للغنم / هزالة هذه الأقوال ومخالفتها لأصول العقيدة /الإيراد على هذه الأقوال.
بسمه تعالى
     الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سادة خلقه وقادة رسله محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين..وبعد:
  السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
  الجواب: المخالفون يعتقدون أن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله كان يرعى الغنم لأنه كان فقيراً؛ وروى السيد البروجردي في جامع أحاديث الشيعة أيضاً ما معناه أنّ النّبي صلَّى اللَّه عليه وآله كان يرعى الغنم قبل النّبوة فسمع هدّة عظيمة وجفلت الغنم ، ولمّا نزل عليه جبرئيل عليه السّلام بعد النبوة سأله عن تلك الهدّة فقال : هذه صوت وقع صخرة ألقيتها في جهنّم منذ سبعين سنة ، والآن وصلت إلى قعر جهنّم وأخبر عليه السّلام أنّه يهوديّ مات وعمره سبعون سنة".
        والرواية التي أشار إليها السيّد البروجردي رحمه الله لم نعثر عليها في المصادر الحديثية عندنا نحن الشيعة، ما يعني عدم وجودها في مصدرنا، ويشهد على ما قلنا أن السيد المذكور نقلها بمعناها، ويبدو لنا أنها من مصادر المخالفين..وما عثرنا عليه في مصادرنا لا يوجد فيها ما يدل على أن النبيَّ كان يرعى الغنم عندما سمع الهدة... نعم هناك خبرٌ في مصادرنا يشير إلى أن النبيَّ محمداً صلى الله عليه وآله كان كغيره من الأنبياء يرعون الغنم ليس بسبب الفقر، بل لأجل تعليمهم القيادة..! وهو أمر مخالف لأصول العقيدة كما سوف ترون لاحقاً .
    والتحقيق أن يقال: أن قصة رعي الغنم ملفقة على رسول الله صلى الله عليه وآله، لفَّقها المخالفون المبغضون لسيدنا عبد المطلب عليه السلام وأولاده كسيدنا أبي طالب (سلام الله عليه)، فكانت غايتهم من التلفيق أمران هما التالي:
    (الأمر الأول): القدح بعمّه سيِّدنا أبي طالب (سلام الله عليه)، وذلك لأن رعيه للغنم كان بسبب فقر عمّه أبي طالب (سلام الله عليه) حيث كان له الفضل في تربيته للنبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله . 
    (الأمر الثاني): أن تلفيق رعيه للغنم لئلا يلحق العار بشيخي أعمدة السقيفة (أبو بكر وعمر ) حيث كان يعملان بالرعي ليعيشا به، فكان من المناسب تلفيق قصة رعي النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ليكون قدوة لغيره من الصحابة ممن كان يرعي الغنم كالشيخين وأبي هريرة الدوسي...!!
  وكلا الأمرين فاسد، وذلك لأن سيدنا أبي طالب عليه السلام كان عزيزاً في قومه ولم يكن فقيراً حتى يترك ابن أخيه ليرعى ويعيش بمهنة الرعي...فقد كان غنياً يتصدق على الآلاف من الفقراء والمحتاجين،ولم يكن بخيلاً على ابن أخيه لكي يضطر إلى رعي الغنم..وهو منزَّه عن البخل وذلك لكونه وصيّاً من الأوصياء كما فصّلنا ذلك في كتابنا :" أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد " فليراجع. 
  إن رعي الغنم ليس قبيحاً بذاته وبعنوانه الأولي لا سيما لمن لا يجد عملاً آخر ليكدَّ به على نفسه وعياله، إلا أنه بالعنوان الثانوي مذموم بحق الأنبياء والأولياء المقربين ممن أغناهم الله سبحانه عن الناس والحاجة إليهم، ويشهد لهذا تاريخ آباء النبي والوليّ عليهما السلام الخالي من كون أحدهم راعياً للغنم، وكذلك  أمير المؤمنين مولانا الإمام الأعظم عليّ بن أبي طالب (سلام الله عليه) لم نعثر على خبر يدل على أنهم كانوا يرعون الأغنام، وإذا لم يكن لدينا خبر يدل على رعي أحدهم الغنم، فلا يصح لنا وللآخرين أن ننسب إليهم ذلك، قال تعالى:( قل ْءآلله أذن لكم أم على الله تفترون) وقال تعالى ( تلله لتسئلن عما كنتم تفترون).
    ودعوى أن الأنبياء رعوا الغنم ليست صحيحة، فإن المخالفين رووا حديثاً نقلاً عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله جاء فيه:" ما من نبي إلا ورعى الغنم"، وزاد البخاري الجملة الأخرى: قالوا : وأنت يا رسول الله ؟ قال : وأنا رعيتها لأهل مكة على قراريط؛ أي كل شاة بدينار " .
   وأضافوا إلى القصة ما رووه عن النبي إبراهيم عليه السلام أنه  كان له أربعة آلاف كلب في غنمه في عنق كل كلب طوق من الذهب الأحمر زنته ألف مثقال فقيل له في ذلك فقال:" إنما فعلت ذلك لأن الدنيا جيفة وطلابها كلاب فدفعتها لطلابها ".
   ونحن لم نعثر على خبرٍ في مصادرنا وطرقنا يدل على أن الأنبياء والأوصياء عليهم السلام ــ لا سيَّما نبينا الأعظم محمد صلى الله عليه وآله ــ كانوا رعاة الأغنام، سوى ما رواه الصدوق في العلل كما سوف نوضح لاحقاً.
   وأما ما نسب إلى النبي موسى عليه السلام أنه رعى الغنم للنبي شعيب عليه السلام، فإنه من روايات المخالفين، والصحيح أن خدمته له لم تكن على وجه رعاية الغنم، بل كانت خدمة له على وجه آخر، وربما تكون رعاية غنمه عرضية لأجل كونها من جملة الإيجارة له لا أنها ذاتية مخصوصة برعاية الغنم، فهو لم يرعَ الغنم للنبي شعيب عليه السلام بالعنوان الذاتي بما هو رعي، وإنما الرعي ــ على فرض أن رعى له الغنم ــ كان عرضياً ومن جملة الخدمات التي استأجره لها النبي شعيب ، بل  الوارد في بعض الأخبار أن أغنام شعيب عليه السلام كانت عند النبي موسى عليه السلام على وجه العارية ليحصل النبي موسى عليه السلام على ماله أجرة خدمته للنبي شعيب لما خرج مع زوجته بنت النبي شعيب عليه السلام إلى قومه في مصر...فقال له:" لا بد أن أخرج إلى وطني وأمي وأهل بيتي فمالي عندك ؟ فقال شعيب عليه السلام: ما وضعت أغنامي في هذه السنة من غنم بلق فهو لك..." إلى آخر القصة التي أشار إليها خبر تفسير القمي في سورة القصص آية 28.
  إن كون أغنام النبي شعيب عارية عند النبي موسى لا يستلزم أنه كان راعياً عنده، نعم إن العارية تستلزم من النبي موسى أن يرعاها، ورعايته لها لا يعني أنه كان راعياً لغيره بالأجرة، ولا بأس للمؤمن ــ فضلاً عن نبي ــ أن يرعى لنفسه ولعياله الغنم ليعيش بها ولتكون مورد رزقه، وهو مستحب، ولكنه أمر مختلف عن كونه راعياً ليسترزق من الناس بالرعي أو ليكون الرعي لتعليمه القيادة كما زعم بعض علماء الشيعة تبعاً للمخالفين، مؤيدين ذلك بخبر عقبة عن الإمام الصادق عليه السلام، وهو خبر موافق لأخبار المخالفين ومخالف للمرتكزات العقائدية عندنا، فضلاً عن معارضته للأخبار الكثيرة الدالة على فعلية علوم النبي الأعظم وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام الدالة على استغنائهم عن الوسائل العادية الكسبية في تحصيل العلوم والمعارف كما سوف نبيّن عما قريب بإذن الله تعالى.
  ولم يكن سيدنا النبي الأعظم صلى الله عليه وآله أجيراً لأحد حتى لمولاتنا أم المؤمنين خديجة عليها السلام، بل كان يتاجر بأموالها على سبيل المضاربة فقط وليس أجيراً يقبض راتباً شهرياً وما شابه ذلك؛ والسر في ذلك أن السيدة خديجة أحبته ووجدت فيه خير أمين لرعاية أموالها وإدارتها بالمضاربة وليس بالأجرة...وهو ما دل عليه الراوندي في الجزء الأول من كتابه ( الخرائج صفحة 140 ) عن جابر أ نه قال: كان سبب تزويج خديجة محمداً: أن أبا طالب قال: يا محمد: إني أريد أن أزوجك، ولا مال لي أساعدك به ، وإن خديجة قرابتنا ، وتخرج كل سنة قريشا في مالها مع غلمانها ، يتجر الرجل لها ويأخذ وقر بعير مما أتى به، فهل لك أن تخرج ؟ قال: نعم.
   إن سيدنا أبا طالب عليه السلام كان لديه من المال ما يكفيه وعياله، ولم يكن يملك الأموال الطائلة التي يمكن أن يؤسس ببعضها بيتاً لرسول الله صلى الله عليه وآله مع عامة نفقاته وشؤونه، فكان من اللازم عليه أن يؤمن للنبيّ الأعظم ما يكفي للقيام بنفقاته من دون حاجة إلى معيل كعمه، وإن كان النبي ليس بحاجة لأحد مطلقاً، لأن الله تعالى كافيه وحاميه ورازقه، ولكن يبدو أن سيدنا أبا طالب عليه السلام أحبّ للنبي الأعظم أن يقترن بالسيدة خديجة عليها السلام فدبر تلك التجرة معها لتكون السيدة خديجة بالقرب منه، ويبدو لنا أن مولانا أبا طالب عليه السلام كان مطلعاً على الأسرار الربانية الخاصة المتعلقة برسول الله محمد صلى الله عليه وآله...وكيف لا ! وقد كان مولانا أبو طالب عليه السلام وصياً لأبيه سيدنا عبد المطلب عليه السلام وهو ما أوضحناه في كتابنا الجليل الموسوم بـ" أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد" فليراجع.
   وبالجملة: إن سيدنا المعظم رسول الله صلى الله عليه وآله كان شريكاً لمولاتنا أم المؤمنين خديجة عليها السلام في تجارتها إلى بلاد الشام، وهو ما أكده خبر مولانا الإمام المعظم الحسن العسكري عليه السلام عن أبيه الإمام الهادي  عليهما السلام حيث قال: إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يسافر إلى الشام مضارباً لخديجة بنت خويلد" وبالتالي لم يكن النبيّ أجيراً لها، فضلاً عن أنه لم يكن راعياً للغنم.
   إشكال وحل:
   مفاد الإشكال: إن العامة رووا في مصادرهم أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان قد رعى الغنم في بني سعد، ويقولون إنه رعاها لأهل مكة، فقد روى البخاري في كتاب الاجارة انه (صلى الله عليه وآله) قال ما بعث الله نبياً إلا ورعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة.
  وروى في كنز العمال رقم (32326) : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : بعث داود وهو راعي غنم ، وبعث موسى وهو راعي غنم ، وبعثت وأنا أرعى غنماً لأهلي بجياد .
   ووافقهم المشهور من علماء الإمامية حيث اعتمدوا على خبرين رواهما الشيخ الصدوق في علل الشرائع باب 29:" العلة التي من أجلها أحبَّ اللهُ عزَّ وجلَّ لأنبيائه (عليهم السلام) الحرث والرعي"، وهما الآتي:
1 - حدثنا أبي رضي الله عنه قال : حدثنا سعد بن عبد الله عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن محمد بن سنان ، عن محمد بن عطية قال : سمعت أبا عبد الله " عليه السلام " يقول : إن الله عز وجل أحب لأنبيائه عليهم السلام من الأعمال الحرث والرعي ، لئلا يكرهوا شيئاً من قطر السماء .
 2 ــ حدثنا أبي رضي الله عنه قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن علي بن فضال ، عن مروان بن مسلم ، عن عقبة ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ما بعث الله نبيا قط حتى يسترعيه الغنم ، يعلمه بذلك رعية الناس.
    وقد تفلسف علماء العامة ومعهم بعض علماء الشيعة القشريين بالقول: إن رعي النبيّ للغنم إشارة الى تعليمه كيف يرعى البشر، ذلك لأن رعي الغنم أصعب من رعي البشر، هذا مضافاً الى أن في رعيه للغنم يوجب إستشعار القلب الرأفة واللطف، فإذا انتقل الى رعاية البشر يكون قد تهذبت نفسه من الحدّة الطبيعية والظلم الغريزي، فيكون في أعدل الأحوال، كما في السيرة الحلبية (ج1ص126) وفتح الباري (ج 4 ص 364 ).  
  وقال السيّد الخوئي في مصباح الفقاهة (ج 1ص 26):" وأمّا الرعاية فاستحبابها لما فيها من استكمال النفس وتحصيل الأخلاق الحسنة وتمرين الطبع على إدارة شؤون الرعية وإزالة الأوصاف الرذيلة من السبعية والبهيمية، فإنّ من صرف برهة من الزمان في تربية الحيوان صار قابلا لإدارة الإنسان ، ومن هنا كان الأنبياء قبل بعثتهم رعاة للأغنام كما في رواية عقبة المتقدّمة: « ما بعث الله نبياً قط حتى يسترعيه الغنم ويعلّمه بذلك رعية الناس » وفي النبوي المتقدّم « ما من نبي إلاّ وقد رعى الغنم ، قيل : وأنت يا رسول الله ؟ قال : وأنا » .
  ونقل الشيخ الريشهري عن الشيخ مرتضى المطهري في الحكمة من عمل الأنبياء في الرعي قبل بعثتهم :" يرى البعض أن السبب الذي يقف وراء عمل الأنبياء جميعهم أو جلهم في الرعي هو من أجل أن يتمرسوا على القيادة ميدانيا ، ولا يؤيسهم الفارق الفكري بينهم وبين الأمة من القيادة . بيد أن من الطبيعي أن كل قيادة فطرية غير معصومة تحتاج إلى تجربة وتعلم واكتساب . وإذا كان الأنبياء يتمرسون على الرعي فكيف بالآخرين ؟ ! .
   إذا أنعمنا النظر في الرواية المأثورة عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) في الحكمة من عمل الأنبياء في الرعي قبل البعثة فستستبين لنا نقاط رائعة في مجال تعليم القيادة وتجربتها ، وكيفية تنمية موهبة الإمامة . فالرعي يعلم طالب الفرع الإداري دروسا متعددة ومتنوعة : " أليس الرعي نفسه قيادة ؟ فالراعي يصون القطيع من الأخطار ، ويطرد الذئاب عنه ، ويقتاده نحو المراتع الممرعة ، ويوصله إلى عين الماء .
  يضاف إلى ذلك أن الراعي هو الإنسان الوحيد الذي وقف حياته على حياة القطيع ، فقد انقطع عن مدينته ودياره وأسرته وقرابته وجاء إلى الصحراء ، وربط مصيره بمصير قطيعه ، وحرم نفسه من مواهب الحياة جميعها . ويمضي وقته في البيداء من أجل القطيع ، وبكلمة واحدة : يفدي نفسه للقطيع . ويتعلم الراعي درسا مؤلما آخر أيضا ، وهو الدرس الذي إن لم نقل إنه يستحيل على الآخرين فهو صعب عسير في الأقل .
لم يجب أن نتحمل ري بستان تنمو فيه أزهار من ورق لا خير منها ؟ ولماذا يضحي بنفسه من أجل طائفة لا تفهم شيئا ، ولا تعرفه ، ولا تدرك تضحيته ؟ ولماذا يفكر بمن لا يفكر إلا ببطنه وسمنته ؟ ولماذا يهب حياته وسعادته من لا تهمه إلا حياته هو وسعادته الخاصة ؟ ! إنها أسمى درجات القيادة حقا . من هنا ، كان الأنبياء جميعهم رعاة . تعلموا المعاناة في الرعي وتمرنوا عليها من أجل قوم كالأغنام التي طأطأت خطمها في الأرض لا تعرف إلا السوام .
  إن مجرد الالتقاء بالحمقى يجلب الهم ويأخذ بالخناق ، فكيف بالاختلاط بهم والاشتراك معهم في الحياة المعنوية والاجتماعية والعمل ؟ وأي عمل ؟ إنه العمل الفكري والسياسي ، بخاصة " النضال السياسي " في مثل تلك البيئة ومع أولئك الأشخاص !؛ الدرس الآخر هو فن " العيش منفردا " وعلى حد تعبير كاتب روسي : " فن الحياة مع الذات " ويعلم الرعي الاستقلال ، والاستغناء ، وعدم الركون إلى الانس ، والتسلية ، وضروب اللهو ، والمجاملة ، والتعويل على الآخرين ، والتغنج ، والمدح ، والاختلاط بالآخرين ومساعدتهم . . . إنه يعلم درس الوحدة ، والحياة مع الذات ، والاستغناء المطلق.
  أجل ، التعليم والتجربة عاملان جوهريان لتنضيج فطرة الإمامة والقيادة ، وحاجة القائد إليهما ثابتة لا مراء فيها، سواء كان باتجاه إمامة النور أم باتجاه إمامة النار . ويستطيع كل إنسان أن يدرك هذه الحاجة بنظرة يسيرة يلقيها على العاملين المذكورين ". انتهى كلامه.
  الإيراد على هذا القول بالوجوه الآتية:
  (الوجه الأول): إن الأقوال المتقدِّمة خلطت بين الحقّ والباطل، فهي أقوال متشابهة في الشبهة والضلال..! إذ إن رعي الغنم وإن كان فيه بعض الخصال الجميلة كالتصبر والروية والتأني وتحمل الآلام والمشقة واعتزال الخلق وما يصدر منهم...إلا أنه لا يشمل الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) باعتبارهم أفضل خلق الله تعالى بالإيمان واليقين وقيادة البشر وتحمل الآلام والصبر على مشاق الأمور ومواجهة المعاندين والظالمين من دون الاستعانة بالوسائل الطبيعية لتكون السبب في تعليمهم قيادة البشر، فهم علماءٌ ربانيون، بالتالي لا بدَّ أن يكون علمهم لدنيَّاً حضورياً من عند الله تعالى وليسوا بحاجةٍ إلى رعي الغنم لكي يعرفوا كيفية قيادة البشر..! فلم يلتفت أصحاب الشبهة المتقدمة إلى تسديد الله تعالى لأنبيائه بالعلوم الربانية التي هي من صلب وظائفهم التبليغية، فلا يدعهم يحتاجون إلى الوسائل الطبيعية لكي يعرفوا وظائفهم التبليغية، إذ إن الله تعالى حينما فوَّضهم على قيادة الناس إلى الهدى، يجب في حكمته المتعالية أن يعطيهم القدرة العلمية الحضورية على القيادة والرعاية والحفظ والهداية؛ فدعوى أن الأنبياء لا يعرفون قيادة الناس إلا من خلال رعي الغنم، تعتبر مجازفة كبيرة بحقِّ الأنبياء والأولياء عليهم السلام، وأصحاب هذه الشبهة بحاجة إلى دراسة في فهم حقيقة الأنبياء وما يتصفون به من علوم وعارف يقينية لا علاقة للوسائل الطبيعية في تحصيلها، وقد فندنا في كتابنا "شبهة إلقاء المعصوم في التهلكة ودحضها" شبهة اعتقاد المشهور حول علم المعصوم من آل محمد عليهم السلام، هل هو حضوريٌّ فعليٌّ أم أنه حصوليٌّ كسبيٌّ ؟! 
  (الوجه الثاني): أنهم نسبوا الجبر الى الله والظلم الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأن الحدَّة والظلم غريزتان في نفس النبي بحسب زعمهم يحتاجان الى التهذيب والحدِّ منهما، ونحن نسأل هؤلاء : هل أن الظلم غريزي في الانسان أم هو طارىء عليه؟ قالت الامامية إن الظلم طارىء على الذات الانسانية ، لأنه لو كان غريزياً لدل على الجبر بالأفعال وقد قامت الأدلة القطعية على بطلانه؛ ولو سلَّمنا أن الظلم غريزيٌّ فهل يمكن القضاء عليه بواسطة رعاية الغنم ؟.
   وهل كلُّ راعٍ للغنم يصبح خالياً من الظلم الغريزي، وتنتفي منه الحدَّة الطبيعية التي فيه ؟ أم أن ظلمه وحدَّته أقل من ظلم غيره وحدَّته؟ تساؤلات لا إجابة عليها من قبل هؤلاء المتفلسفين الذين نسبوا إلى رسول الله رعي الغنم قبل البعثة..!!
  هذا مضافاً الى أن النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وآله ليس بحاجة الى تهذيب من الحدَّة الطبيعية والظلم الغريزي، كيف يحتاج الى تهذيب وقد قرن الله به ملكاً مذ كان فطيماً يسلك به طريق المكارم على حد تعبير أمير المؤمنين في خطبته المسماة بالقاصعة، وكيف يحتاج الى تهذيب، مع ان الله سبحانه قال عنه ( وانك لعلى خلق عظيم)  ( إنا ارسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً ) " الاحزاب 45 "
   وهل هناك ملازمة عقلية وشرعية بين رعي الغنم وقيادة البشر؟ كلا ثم كلا ! ولو سلمنا أنه رعى الغنم لكن لا ليتعلم رعي البشر بل ليعطي فرصة للابتعاد عن الناس والانصراف للتفكير، بعيداً عن ضوضاء المدينة ومشاكلها وهمومها، ويؤيّد ذلك أنه (صلى الله عليه وآله) كان يذهب الى غار حراء طلباً للانفراد عن الناس من أجل التفكير والتأمل والعبادة ....!
 (الوجه الثالث): إن أئمتنا الطاهرين (سلام الله عليهم) كانوا ـــ ولا يزالون ـــ لا سيما إمامنا الحجة القائم المهدي عليه السلام من أبرع القادة في قيادة البشر ولم يروَ عنهم أنهم رعوا الغنم ليتعلموا قيادة البشر، فمن علمهم بالعلم اللدني يعلّم جدهم رسول الله محمد رعية البشر...!!
(الوجه الرابع): الروايات التي أشارت إلى رعي الأنبياء للغنم لكي يتعلموا رعية البشر ضعيفة سنداً ودلالة، ومخالفة للأدلة القطعية التي كشفت عن أن الله تعالى هو المعلّم لهم بالعلم الحضوري والإلهام، ولو سلمنا بصحة صدورها من المعصوم فلا تخلو من أمرين: إما أنها ملفقة عليهم، وإما أنها محمولة على التقية، وبالتالي فلا تقاوم الأخبار الأخرى التي دلت على أن الله تعالى هو الملهم لهم والمسدد لخطواتهم في كل صغيرة وكبيرة..!
(الوجه الخامس): إن دعوى أن النبيَّ الأعظم رعى الغنم ليتعلم قيادة البشر..هي مجرد دعوى مصدرها علماء العامة وقد دسوها في أخبارنا الشريفة، وهي مخالفة للأدلة القطعية التي أشرنا إلى جملة منها ها هنا، والبقية تركناها لبحوث أخرى في مجال أوسع مما نحن فيه الآن، والله الموفق للصواب والرشاد، والسلام.

      حررها العبد الأحقر محمد جميل حمُّود العاملي
      بيروت بتاريخ 14 ربيع أول 1438 هـ.
 

  • المصدر : http://www.aletra.org/subject.php?id=1399
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 01 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19