• الموقع : مركز العترة الطاهرة للدراسات والبحوث .
        • القسم الرئيسي : العقائد والتاريخ .
              • القسم الفرعي : شبهات وردود .
                    • الموضوع : جوهر الخلاف بين الشيعة والأشاعرة على الخلافة .

جوهر الخلاف بين الشيعة والأشاعرة على الخلافة

 

بسم الله الرَّحمان الرَّحيم
 

الموضوع: الخلاف بين الشيعة والأشاعرة في تعيين الطرق الدالة على الخلافة/وإستدلال العامةعلى خلافة أبي بكرٍ والإيراد عليها .

من كتاب مؤتمر علماء بغداد لآية الله الشيخ محمّد جميل حمّود:1/177ـــ 224   
 

ثمة فوارق جوهرية بيننا نحن الإماميَّة وبين الأشاعرة في الأُصول الإعتقادية بشكلٍ عامٍ وإن كان الخلاف على أشدّه في الخلافة التي هي جوهر النزاع بين الإمامية وبقية الفرق الأشعرية لما لها من أهميَّة عظمى على الصعيدين التشريعي والعقدي لتأثرهما بالحيثيات الروحيَّة والفكرية التي يتصف بها الخليفة المنصوب، لذا افترقوا في تعيين الطرق لإثباتها إلى ثلاثة أمورٍ:
النص ـ الاختيار ـ الميراث.
 

الطريق الأول: "النص":
وقد ذهب إليه الإمامية "أيدهم اللَّه عزّ وجلّ" حيث على مسلكهم لا بدَّ للخليفة أن يكون متحلياً بنفس الصفات والكمالات التي كان يتحلى بها النبي الكريم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، خلافاً للزيدية التي هي من فرق الشيعة لكنها ليست إمامية اثنى عشرية حيث قالوا إن تعيين الإمام إنما هو بالاختيار، ووافقوا بذلك الأشاعرة.
لكننا نحن الإمامية نعتقد طبقاً للأدلة القاطعة أن المرجع في تعيين الإمام أو من ينوب عن الرسول الأعظم(صلَّى الله عليه وآله)لتسلُّم قيادة الأمة بعدرحيله من دار الدنيا هو أمران:
(الأول): النص من اللَّه سبحانه على لسان رسوله العظيم أو إمام ثبتت إمامته بالنص عليه من الله تعالى  والرسول أو الإمام السابق.
(الثاني): ظهور المعجزة على يديه، للتدليل على أنه متعينٌ من قبل اللَّه تعالى، والشيعة الإمامية حينما يشترطون النص والمعجزة وفقاً لما يعتقدون من وجوب الإمامة، لأنها بمثابة النبوة أو المكمّل لها إلا ما استثناه الدليل، فالإمام‏ (عليه السَّلام) له كل ما كان للنبي الكريم إلا الوحي التشريعي، فبذا هي ركن عظيم، وأصلٌ من أصول الدين، فالمسألة عند الشيعة توقيفية، لا رأي للناس فيها حتى يمكنهم إنتخابُ إمامٍ لهم، ووفقاً لأصوليتها كبقية الأصول فلا مجال لرأي العباد فيها، حينئذٍ لا بدّ أن يكون المعيّن لها هو اللَّه سبحانه وتعالى.
ولا بدّ في النص أن يكون جليَّاً واضحاً لا خفياً مبهماً، بمعنى أنه لا بد أن يبرز النصُ اسمَ الإمام بعد النبيِّ، بحيث لا يوقعُ الناسَ في الريب، لأن الإمامةَ واجبةٌ عليه تعالى بعد وفاة النبيّ بحكم ضرورة العقل والنقل الدالين على وجوب النيابة بعد رحيل الرسول من عالم الدنيا، بل إن صلاحيات الإمامة أكبر وأعظم لما تمثّله من بسط أحكام الشريعة وتطبيق قوانينها ودساتيرها إلى ما هنالك من وظائف هي من مختصات الإمام‏ (عليه السَّلام)، وكل هذا لا يتوفر إلاّ برجل معصومٍ من الذنوب والخطايا والقبايح ومسدّد في كل حركاته وأقواله وأفعاله.
وملكة العصمة في الإمام على مذاق الإمامية هي من الأمور الخفية والباطنية التي لا يعلمها إلا اللَّه تعالى، فإذا كان هكذا، فلا مجال لغيره تعالى كي يعيّن الإمام، ووافقنا على ذلك جماعة من المعتزلة كالنظّامية والحايطية حيث قالوا بإشتراط النص الجلي على الخليفة.
الطريق الثاني: "الاختيار":
في مقابل طريق النص الذي يعتقد به الإمامية، ذهب العامة إلى طريق ومرجع آخر لتعيين الإمام، هذا الطريق هو مرجعية الأمة بمعنى أن تعيين الإمام الخليفة راجع إلى الأمة الإسلامية، وألغوا خصوصية النص الجلي، مدعين أن النبي ارتحل من عالم الوجود ولم ينصّب على الأمة أحداً ينوب مكانه، بل ترك أمر تعيينه إلى الأمة.
وقد اختلف العامة فيما بينهم في تحديد ماهية الأمة التي يُراد لها أن تنتخب الإمام، هل المراد منها كل أفراد الأمة، أو جماعة معيّنون يُصطلح عليهم بأهل المشورة أو أهل الحل والعقد؟
الأول باطل بالوجدان عندهم لأنه لم يُعهد أنّ خليفة من الخلفاء كان قد انتخبه المسلمون جميعاً في كل أقطار البلاد الإسلامية، لذا عدلوا به إلى المعنى الآخر وهو أن المراد من أفراد الأمة الذين يجب عليهم أن ينتخبوا هم أفراد معيّنون في كل بلد من بلدان المسلمين، وهذا أيضاً باطل لأنه تكليف بما لا يطاق، إذ من أين للمسلمين أن يعرفوا الأفراد المعينين في كل بلد وهم ما يصطلح عليهم بأهل الحل والعقد ومن يعيّنهم؟ وما السبيل إلى انتخاب الذين يعيّنون أهل الحل والعقد؟ كل هذا خارج عن الوسع وهو الحرج المنفي بقوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ولا حرج ولا تعجيز أكثر من التعرّف على إجماع فضلاء كل بلدان المسلمين، فبطل هذا القول الفاسد، ولو كان ممكناً لما لزم لأنه دعوى بلا برهان، إذ لو كان كذلك لما لزم أحد القيام بقسط، ولا تعاون على بر وتقوى، إذ لا سبيل إلى اجتماع أهل الأرض على ذلك أبداً لتباعد أقطارهم، ولو كان هذا هو المطلوب، لكان أمر اللَّه بالقيام بالقسط وبالتعاون على البر والتقوى باطلاً فارغاً، وهذا خروج عن الإسلام وتفريغاً له من مضمونه، فسقط القول المذكور. ولكنّ الرأي الراجح والثابت عندهم هو أن المراد بأهل الحل والعقد هم جماعة معدودون يتواجدون في بلد الإمام، وقد أشار إلى هذا المعنى الماوردي في الأحكام السلطانية.
وقد اختلفوا في عدد أهل الحل والعقد إلى آراء:
منهم من قال: إن أقل عدد يتحقق به مفهوم الشورى هو خمسة أشخاص يحق لهم أن ينتخبوا الإمام.
ومنهم من قال: يكفي أربعة أو ثلاثة بل إثنان.
ومنهم من قال: بكفاية الواحد إذا شهد عليه الشهود.
قال عبد القاهر البغدادي المتوفى عام 429هجري :[إن الإمامة تنعقد لمن يصلح لها بعقدِ رجلٍ واحد من أهل الاجتهاد والورع إذا عقدها لمن يصلح لها، فإذا فعل ذلك وجب على الباقين طاعته].
وقال الجويني المتوفى عام 478هجري:"إن البيعة تنعقد بشخصٍ واحدٍ من بني هاشم إذا بايعه رجل واحد لا غير".
وقال في موضع آخر:
"اعلموا أنه لا يُشترط في عقد الإمامة الإجماع، بل تنعقد الإمامة، وإن لم تُجمع الأمة على عقدها، والدليل عليه أنّ الإمامة لمّا عقدت لأبي بكر، ابتدر لإمضاء أحكام المسلمين ولم يتأنّ لانتشار الأخبار إلى مَنْ نأى من الصحابة في الأقطار، ولم يُنكر عليه مُنكر. فإذا لم يشترط الإجماع في عقد الإمامة لم يثبت عدد معدود، ولا حدٌّ محدود، فالوجه الحكم بأنّ الإمامة تنعقد بعقد واحد من أهل الحل والعقد".
ليت شعري: كيف تنعقد الإمامة حسبما ادّعاه القوم بواحد من أهل الحل والعقد، ولا تنعقد لمولانا أمير المؤمنين عليّ‏بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام) الذي تصافق على بيعته يوم الغدير مِئةٌ وعشرون ألف مسلم وعلى طليعتهم النبي الكريم محمد وثلة من الصحابة منهم أبو بكر وعمربن الخطّاب؟!!
وما ذهبوا إليه ما هو إلا تبريراً لما حصل في تلك الآونة الزمنية حيث إن البيعة انعقدت لأبي بكر بواسطة عمربن الخطّاب، لذا قال القرطبي المتوفى عام 671هجري:
"فإن عقدها واحدٌ من أهل الحلّ والعقد، فذلك ثابت، ويلزم الغير فعله، خلافاً لبعض الناس، حيث قال: لا تنعقد إلا بجماعة من أهل الحل والعقد، ودليلنا: أن عمر عقد البيعة لأبي بكر، ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك، ولأنه عقد، فوجب أن لا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود".
ولم يكتفِ علماء العامة بهذا بل أجازوا أن يتعين الإمام بالقهر والاستيلاء حسب تقرير التفتازاني المتوفى عام 791هجري:قال: "  وتنعقد الإمامة بطرق:
(أحدها): بيعة أهل الحل والعقد من وجوه الناس الذين يتيسر حضورهم من غير اشتراط عدد ولا اتفاق مَنْ في سائر البلاد، بل لو تعلق الحلُّ والعقد بواحد مطاع كفت بيعته.
(ثانيها): استخلاف الإمام وعهده، وجعله الأمر شورى بمنزلة الاستخلاف، إلا أن المستخلَف عليه غير متعين فيتشاورون ويتفقون على أحدهم، وإذا خلع الإمام نفسه كان كموته، فينتقل الأمر إلى ولي العهد.
(ثالثها): القهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام وتصدّى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة واستخلاف، وقهر الناس بشوكته، انعقدت الخلافة له وكذا إذا كان فاسقاً أو جاهلاً على الأظهر".
يلاحظ على هذه الأقوال:
(أولاً): إن اختلاف القوم في شرائط الإمام وطرق تنصيبه، جعل الخلافة وبالاً على المسلمين، حتى أخذت لنفسها شكلاً يختلف كل الاختلاف عن الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه، فقد أصبحت الخلافة الإسلامية امبراطورية، وملكاً عضوضاً، يتناقلها رجال العبث والفساد، وقد أعانهم في تسنم ذروة تلك العروش، مرتزقة متظاهرين باسم الدين، فبرروا لهم أفعالهم ووجهوا أعمالهم توجيهاً ملائماً للظروف السائدة، فخلقوا في ذلك أحاديث وسنن مفتعلة على صاحب الرسالة، واصطنعوا لهذا وذاك فضائل، لتدعيم مراكزهم السياسية، من هذه الأحاديث ما نسبوه إليه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنه قال:"يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنّون بسنتي وسيقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسي، قال الراوي: قلت: كيف أصنع يا رسول اللَّه إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع".
(ثانياً): كيف تنعقدُ الإمامةُ بواحد، في حين لا ينعقد النكاح بين الزوجين إلا بشهادة رجلين، فما هذه الغميزة في الخلافة حيث اعتبروها أقلّ شأناً من عقد الزواج الذي اهتمت به السنّة المطهرة على الخصوص بشؤونه وأحكامه، والعجب أن عقد الإمامة الذي تتوقف عليه حياة الأمة، لم يطرح في النصوص حسبما زعم القوم ولم تُبَيّن حدوده وشرائطه وسائر مسائله في حين لم يترك النبيُّ بيان أحكام مسائل هي أدون بكثير من مسألة الخلافة؟!!
(ثالثاً): إنّ تنصيب بعض الصحابة للخلافة دون مشورة البقية يُعَدُّ خرقاً لنظرية الجمهور القائلة بأن "يد اللَّه مع الجماعة" و"لا تجتمع أمتي على ضلالة" و"لا تجتمع أمتي على خطأ".
هذا مضافاً إلى اعتراضات هائلة صدرت من نفس الصحابة على خلافة أبي بكر، حتى إنّ الزبير وكما يروي الدينوري وقف في سقيفة بني ساعدة أمام المبايعين وقد اخترط سيفه، وهو يقول: "لا أغمده حتى يبايع عليٌّ" فقال عمر: "عليكم الكلب" فأخذ سيفه من يده، وضرب به الحجر فكسره.
وأيضاً فإن الحباب بن منذر قد قام يوم السقيفة منتضياً سيفه قائلاً: "أنا جُذيلُها المحكّك، وعذيقها المرجّب، أنا أبو شبل في عرينة الأسد، يعزى إليّ الأسد، فحامله عمر، فضرب يده، فندر السيف فأخذه، ثم وثب على سعدفبن عبادة ووثبوا على سعد أيضاً وتتابع القوم على البيعة، وبايع سعد مكرهاً وكانت فلتة كفلتات الجاهلية، قام أبو بكر دونها، وقال قائل حين أُوطى‏ء سعد: قتلتم سعداً، فقال عمر: قتله اللَّه، إنه منافق، واعترض عمر بالسيف صخرة فقطعه".
ونحن نشك أن سعد بن عبادة بايعهم مكرهاً لشدة ما فعلوا به، ولما رواه الطبري في رواية أخرى، أن عمرف بن الخطّاب قام على رأس سعد وقال: لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك فأخذ سعد بلحية عمر فقال واللَّه لو حصصتَ منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة، فقال أبو بكر مهلاً يا عمر الرّفق ههنا أبلغ، فأعرض عنه عمر وقال سعد أما واللَّه لو أنّ لي قوّة ما أقوى على النهوض لسمعت مني في أقطارها وسككها زئيراً يُجْحرك وأصحابك، أما واللَّه إذاً لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع، احملوني من هذا المكان فحملوه فأدخلوه في داره وترك أياماً ثم بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك، فقال: أما واللَّه حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي وأخضب سنان رمحي وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي فلا أفعل وايم اللَّه لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي واعلم ما حسابي، فلما أتى أبو بكر بذلك قال له عمر لا تدعه حتى يبايع، فقال له بشيرفبن سعد إنه قد لجّ وأبى وليس بمبايعكم حتى يُقتل وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته فاتركوه فليس تركه بضارّكم إنما هو رجل واحد فتركوه.. فكان سعد لا يصلي بصلاتهم ولا يجمع معهم ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر".
بل إن عمر نفسه قد اعترض بعد وفاة أبي بكر على خلافته فقال: "فلا يغُرَّن امرءاً أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فقد كانت كذلك غير أن اللَّه وقى شرّها".
كيف لا تكون فلتة وقد قامت على ظلم آل محمّد (عليها السَّلام)، ونفسه أبو بكر يعبّر عن هويته حينما قال:
"إن لي شيطاناً يعتريني فإذا غضبت فاجتنبوني، وإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوّموني".
أفيصح بعد ذلك أن يتشدق القرطبي ويقول: "ولم ينكر أحدٌ من الصحابة ذلك"، وكأن الحباب وسعداً والزبير وبني هاشم لا سيما مولى الثقلين أمير المؤمنين وزوجه الطهر الطاهر فاطمة روحي فداها لم يكونوا من الصحابة بل ولا بنظر أبي بكر وعمر من المسلمين؟!
(رابعاً): إنّ هذا الاختلاف الفاحش في كيفية عقد الإمامة يعرب عن بطلان نفس الأصل الذي ابتدعوه، فلو كانت الإمامة مفوّضة إلى الأمة، لكان على النبيّ العظيم بيان تفاصيلها وخصوصياتها وخطوطها العريضة، وهل أنها تنعقد بواحد أو بإثنين من الصحابة، أو بأهل الحل والعقد أو بالصحابة الحاضرين يوم وفاة النبي؟!!
(خامساً): كيف يعقل أنْ يترك النبي أُمته بلا تعيين خليفة وهو يعلم إنْ لم يفعل بأن أمته سوف يتسلط بعضهم على بعض، وسوف يريق بعضهم دماء بعض من أجلها، وهو القائل وكما ورد في سنن أبي داوود والنسائي أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة ناجية، والباقون في النار"، "وأنّ أصحابه لن ينجو منهم إلاّ مثل همل النعم، فيرتدّ أكثرهم ويرجعون بعده كفاراً، فيقال للنبي الأعظم‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم".
فهذه الأحاديث وأمثالها تشهد على ما كان يعلمه النبيُّ الكريم من اختلاف أمته، وأن الخلافة من بعده من أولى قضاياه الكبرى، ومع هذا يقال إنه "صلوات اللَّه عليه وآله" لم يوصِ، أو أنه أوكل اختيار الخليفة إلى عقول الناس المتضاربة، ولو كنّا نصدّقها مستسلمين لكذّبنا عقولنا وتفكيرنا، فإن الإسلام جاء رحمةً للعالمين لينقذهم من الجاهلية والهمجية ساكتاً عن أعظم أمر مُنيَ به الإسلام والمسلمون مع أنه كان على علم به؟!
فما علينا إلاّ أن نتّهم التاريخ وحملة الحديث بالكتمان وتشويه الحقائق بقصد أو بغير قصد، ولئن لم يكن محمّد نبياً مرسلاً يعلم عن وحي ويحكم بوحي، فليكن على أقل تقدير أعظم سياسي في العالم كله لا أعظم منه، فكيف يخفى عليه مثل هذا الأمر العظيم لصلاح الأمة بل العالم بأسره مدى الدهر ولا يضع له حدّاً فاصلاً؟!
وهل يرضى لنفسه عاقل يتولى شؤون بلده فضلاً عن أمةٍ أن يتركها تحت رحمة الأهواء واختلاف الآراء ولو لأمد محدود وهو قادر على إصلاحها، أو التنويه عن إصلاحها إلاّ أن يكون مسلوباً من كل رحمة وإنسانية؟ حاشا نبينا وسيّدنا محمّد العظيم من جاء رحمةً للعالمين ومتمماً لمكارم الأخلاق وخاتماً للنبيين! وقد قال اللَّه تعالى منوّهاً بكمال الرسالة وتمامها الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً وقد وجدناه نفسه لا يترك المدينة المنوّرة، إذا خرج لحرب أو غزاة من غير أمير يخلفه عليها، فكيف نصدّق عنه أنه أهمل أمر هذه الأمة العظيمة بعده إلى آخر الدهر من دون وضع قاعدة يرجعون إليها أو تعيين خلف بعده!
(سادساً): كيف يعقل أن يُنسب للنبي الكريم‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) تفويض أمر تعيين الخليفة إلى الأمة المتمثلة بأهل الحل والعقد، وقد حدّثنا التاريخ أن أهل الحل والعقد أو ما يعبّر عنهم بكبار الأمة، هم بؤرة الخلاف والنزاع.
وهكذا على مر العصور كانت الطبقة الخاصة مع اختلاف نفوسهم وتباين نزعاتهم كسائر الناس لا ينفكون عن تحيزات فيهم أعظم منها في غيرهم، ويندر أن يتجردوا عن أهوائهم النفسية، وأغراضهم الشخصية، تجعل كل فرد يشرئب إلى هذا المنصب أو ذاك، فهل أمر كهذا مع أهميته وخطورته يوكَلُ إلى مَنْ وصفنا، وهل يُعقل أن أبا بكر تفطن إلى سوء عواقب هذا التشريع دون النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)؟!! فأسرع أبو بكر وأخوه عمر إلى تعيين الخليفة من بعدهما، فعيّن الأول أخاه عمر بوصية كتبها بخط عثمان، وعيّن الثاني عثمان بطريقة اخترعها ضمن ستة أشخاص سماها بالشورى، فصغى رجل لضغنه ومال الآخر لصهره على حدّ تعبير مولانا أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام)، فكيف تُنسب الفطانة إلى الشيخين وعائشة دون النبي الذي لا يفعل إلا عن وحي، ولا يحكم إلا بوحي، هيهات هيهات أن يكون من النبي الحكيم مثل هذا التشريع، وكيف يخفى عليه ضرره، ولا يخفى على عائشة وهؤلاء يوم أوصوا أنْ لا تُترك أمة محمد بلا راعٍ؟!!
(سابعاً): إنّ إيكال الاستخلاف للأمة أمر لم يقم عليه دليل، فهو بالغض عن مخالفته للنص، لكنه بحدّ ذاته لم يكن قائماً على الأسس الموضوعية، بحيث يختار على ضوئها المستخلِف مَنْ يستخلفه لحيازته على الشروط المعتبرة في القيادة والإمامة كالمؤهلات العلمية والسلوكية والقدرة على الإدارة، والتجسيد الكامل لمفهوم القدوة، وإنما كان هذا الاستخلاف متأثراً بالوضع النفسي للمستخلِف وعلاقته بالمستخلَف معه في العاطفة والسلوك والمصالح والطموحات، فمثلاً كان استخلاف أبي بكر لعمرفبن الخطاب رداً للجميل الذي حباه به الأول كما تنبأ بذلك أمير المؤمنين عليّ‏فبن أبي طالب‏ (عليه السَّلام) حينما قال له عمر: "لست متروكاً حتى تبايع" فأجابه‏ (عليه السَّلام):
"إحلب حلباً لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً".
وقال الإمام‏ (عليه السَّلام) في موضع آخر يصف فيه عهد أبي بكر إلى عمر: "فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجاً، أرى تراثي نهباً، حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده، ثم تمثل بقول الأعشى:
 

شتّان ما يومي على كورها              ويوم حيّانَ أخي جابر
 

فيا عجباً!! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدَّ ما تشطّرا ضرعيها فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشنُ مسها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحّم، فمنيَ الناس لعمرُ اللَّه بخبط وشماسٍ وتلوُّنٍ واعتراض، فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم، فياللَّه وللشورى، متى اعترض الرّيب فيَّ مع الأول منهم، حتى صرتُ أُقرنُ إلى هذه النظائر".
والنتيجة: أن هذا الاستخلاف أدّى إلى تنافس على الخلافة بين ملوك بني أمية والعبّاس بعد انتزاعها من أصحابها الشرعيين من حين وفاة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، فسبب هذا الاختلاف منشؤه عدم اشتراط المؤهلات في المستخلف لفقدان النص برأي أصحاب هذه النظرية، من هنا حاول بعض المتأخرين من فقهاء العامة تهذيب نظرية الاستخلاف، مشترطين أن يكون المعهود له متصفاً بصفات الإمامة كالفقاهة والعدالة، ولا عبرة باستخلاف الجاهل والفاسق.
مما يدل بحسب هذا التعديل أن ما سار عليه أغلب الحكّام في العهد والاستخلاف مخالف للأسس الشرعية حتى عند المذاهب السُّنية.
وعلى ضوء التهذيب الطارى‏ء على النظرية الأشعرية في تولّي الخلافة يكون حكم المعاصرين لأئمتنا المعصومين بدءاً بمولانا أمير المؤمنين وانتهاء بغياب الإمام المهدي‏ (عليه السَّلام) غير شرعية ولا تستمد روحيتها من الشارع المقدّس لفقدانهم لشروط الخلافة، ولمعاصرتهم لأشخاص أولى بالخلافة منهم.
وطرق التولّي لمسألة الحكم بعد وفاة النبي لم تقدّم للأمة إلاّ مزيداً من الويلات والفتن والدماء، فاستخلاف أبي بكر شجّع معاوية على استخلاف يزيد، وأصبح الاستخلاف سُنة متّبعة في حكم بين أمية وبني العبّاس.
أما الشورى التي ابتدعها عمر بن الخطاب فإنها كانت بلاءً على المسلمين، حيث خطط عمر كي يكون عثمان هو الخليفة، وقد حصل ما أراده ابن الخطاب، فأدّى تسلُّم عثمان للخلافة إلى اقتطاع بيت مال المسلمين عن الفقراء واختصاصه ببني أمية وحاشية بلاطه، مما أدى إلى قيام بعض صحابة النبي أمثال أبي ذر الغفاري وعمارفبن ياسر وجماعة معهما كطلحة والزبير على عثمان والاعتراض عليه وقتله.
وبعد مقتله خرج طلحة والزبير على الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام) يطالبانه بدم عثمان، واستغل معاوية الفرصة فقاتل الإمام عليّاً (عليه السَّلام) تحت ذريعة الطلب بدم عثمان، فأضعف جيشه، وفي واقعة التحكيم قام الخوارج عليه فقُتل‏ (عليه السَّلام) بسيفهم، ثم اضطر الإمام الحسن‏ (عليه السَّلام) لعقد الصلح مع معاوية حفاظاً على البقية الباقية من قواعده الشعبية المؤمنة، لكنّ معاوية لم يفِ بشرط من شروط ذاك الصلح، لذا صعد المنبر وقال: كل شرط تصالحت به مع الحسن فهو تحت قدميّ هاتين.
وهكذا استمر حكم معاوية بسياسة البطش لكل مناوئيه، فكان يقتل على الظن والتهمة، واستخلف ابنه يزيد على المسلمين، فابتدأ حكمه بقتل سبط النبيّ الإمام الحسين‏ (عليه السَّلام) وأهل بيته، ثم استباح مدينة الرسول وقتل حسب النصوص التاريخية المشهورة ما لا يقل عن ستة آلاف وخمسمائة من أبناء المهاجرين والأنصار.
وأدت نظرية الغلبة والاستخلاف إلى تسلط ملوك بني العبّاس الذين حكموا بالحديد والنار واستباحوا الحرمات والمقدّسات، ويكفي كشاهد ما فعله عبد الملك‏فبن مروان حيث مات في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، وأساء حكمهم سمعة الإسلام في نظر غير المسلمين، واستمر الصراع على الخلافة والسلطة وأُريقت الدماء واستبيحت الأعراض، وطورد أهل البيت‏ (عليها السَّلام) وحوصروا وفي نهاية المطاف كانت نهايتهم الشهادة على أيدي خلفاء الجور ولم ينج منهم سوى مولانا الإمام المهدي‏ (عليه السَّلام) حيث شاءت القدرة الإلهية أنْ يستمر هذا البيت الطاهر بعطائه يفيض على المستحقين، فغاب عن قواعده المؤمنة سوى الخواص منهم يستفيدون منه ومن عطائه، كما أنه لم ينقطع كلياً عن قواعده المؤمنة به بل يراهم ويرونه ولكنّهم لا يعرفونه مع قضائه لحوائجهم وسماعه لصرخاتهم واستغاثتهم. ولو أنّ الأمة أطاعت أهل البيت‏ (عليها السَّلام) لكانوا أي أئمتنا (عليها السَّلام) لها سفينة النجاة حقاً، ولما حدث ما حدث من مآسٍ على طول التاريخ.
(ثامناً): إن هذا الاختلاف الفاحش في كيفية عقد الإمامة، يعرب عن بطلان نفس الأصل، لأنه إذا كانت الإمامة مفوّضة إلى الأمة، كان من الواجب على النبي بالضرورة بيان تفاصيلها وخصوصياتها وخطوطها العريضة، وأنه هل تنعقد بواحد أو بإثنين من الصحابة؟ وهل أن أهل الحل والعقد هم أنفسهم مَنْ يعيّنون الخليفة أو لا؟.
(تاسعاً): كيف يُتصوّر أن يترك النبيُّ الكريم الحكيم أمتَهُ بلا تعيين خليفة وهو يعلم إن لم يفعل سوف تراق الدماء من أجلها، وقد ورد عنه بالمستفيض "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة ناجية، والباقون في النار" وأن أصحابه لن ينجو منهم إلاّ مثل همل النعم، فيرتدّ أكثرهم ويرجعون بعده كفاراً، فيقال له: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم".
وما ورد عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ قال:
"إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، فأقول؛ سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي".
فهذه الأحاديث وأمثالها تشهد على ما كان يعلمه الرسول الكريم من اختلاف أمته، لذا كانت الإمامة من أولى قضاياه، دفعاً لحصول الخلاف، والتقاتل على أقل تقدير.
من هنا ورد عنه بالمستفيض أنه قال:
"لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، ويكون عليهم إثنا عشر خليفة كلهم من قريش".
وقد أورد البخاري هذا الحديث من ثلاثة طرق، ومسلم من تسعة طرق، وأبو داوود من ثلاثة، والترمذي من طريق واحد، والحميدي من ثلاثة طرق، حسبما جاء في الينابيع.
وأهل البيت‏ (عليها السَّلام) أكثر انطباقاً على هذا الحديث من خلفاء بني أمية وبني العبّاس، لأن بني أميّة كانوا أقل من العدد المعلوم، وبني العبّاس كانوا أكثر، هذا مضافاً إلى أن النبي أراد بهذا الحديث الإشادة بخلفائه من بعده، لا سيما بقوله "لا يزال هذا الدين قائماً" ولا يقوم الدين إلاّ بالعدول، وأين هي العدالة التي تحلّى بها الشيخان وأتباعهما من حكّام بني أمية وبني العبّاس؟!!
هل من العدالة أن يغتصبَ حقُّ الإمامِ عليٍّ‏ (عليه السَّلام) وتُضربَ سيدةُ النساء الحوراء الزهراء (عليها السَّلام) ويجري عليها ما جرى من ظلم الخليفة المزعوم؟! وحسبما قال ابن أبي الحديد: "إنّ عمر بن الخطّاب هو أول من شيَّد بيعة أبي بكر ووقم الخالفين فيها فكسر سيف الزبير لمّا جرّده، ودفع في صدر المقداد، ووطأ في السقيفة سعد بن عبادة، وقال: اقتلوا سعداً، قتل اللَّه سعداً! وحطّم أنف الحباب‏ بن المنذر الذي قال يوم السقيفة: أنا جُذَيلُها المحكّك، وعُذيقُها المرجّب، وتوعّد من لجأ إلى دار فاطمة (عليها السَّلام) من الهاشميين، وأخرجهم منها، ولولاه لم يثبت لأبي بكر أمر، ولا قامت له قائمة".
بعد هذا كله، هل يصح أنْ يقال: ارتحل النبيّ الأعظم ولم يوصِ لأحد من بعده، أو أنه أوكل اختيار الخليفة إلى عقول الناس المتضاربة؟!!
ولو لم يوصِ مع علمه المسبق بإنشقاق الأمة من بعده وتضارب آرائها لكذّبنا عقولنا وتفكيرنا، لأن الإسلام جاء رحمةً للعالمين ولينقذ الناس من الجاهلية والهمجية، فدعوى أن النبيّ لم يوصِ ما هو إلاّ إتهاماً لهذا الرسول الكريم بعدم الكفاءة والجدارة.
ولو لم يكن محمّدٌ نبيّاً مرسلاً يعلم عن وحي ويحكم بوحي، فليكن على الأقل أعظم سياسي في العالم كله لا أعظم منه، فكيف يخفى عليه مثل هذا الأمر العظيم لصلاح الأمة بل العالم بأسره مدى الدهر؟! أو أنه‏ (عليه السَّلام)يعلم بهذا الاختلاف ولا يضع له حدّاً فاصلاً؟!!
وهل يرضى لنفسه عاقل يتولى شؤون بلده فضلاً عن أمةٍ أن يتركها تحت رحمة الأهواء واختلاف الآراء ولو لأمد محدود وهو قادر على إصلاحها، أو التنويه عن إصلاحها إلاّ أن يكون مسلوباً من كل رحمة وإنسانية؟
حاشا نبيّنا الكريم من جاء رحمةً للعالمين، ومتمماً لمكارم الأخلاق وخاتماً للنبيين!! ومعنى كونه رحمة للعالمين أنه لم يترك شيئاً إلاّ بيّنه وحدّد تفاصيله لا سيما هذا الأمر الخطير وقد أوضح الباري العظيم هذا الأمر بقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً وقد وجدناه نفسه لا يترك المدينة المنورة، إذا خرج لحرب أو غزاة من غير أمير يخلفه عليها، فكيف نصدّق عنه أنه أهمل أمر هذه الأمة العظيمة بعده إلى آخر الدهر من دون وضع قاعدة يرجعون إليها أو تعيين خلف بعده!
فلا يتبقى لنا إلاّ أن نعتقد بوجوب تعيين الخليفة على الأمة حفظاً لمصالحها، ودرءاً للأخطار عنها وطروء الشبهات عليها وانحراف أهلها، وقد حصل هذا التعيين بنصوص قرآنية وأخرى نبوية أشارت إلى أن الإمام عليَّاً وأبناءَه المعصومين هم الخلفاء على هذه الأمة والشهداء عليها والقيِّمون على أفرادها. وبهذا يتضح بطلان الطريق الثاني لانتخاب الخليفة، وأما الطريق الثالث فباطل مثله، وإليك البيان.
الطريق الثالث: "الميراث":
ذهب بعض الفرق الإسلامية كالعبّاسية والراوندية إلى ثبوت الإمامة بالوراثة باعتبار أنّ العبّاس‏فبن عبد المطلب استحق الإمامة لقربه من النبيّ دون بني أعمامه.
ويلاحظ عليه:
(أولاً) ـــ يشترط في الإمام العصمة، وهي غير متوفرة في غير الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام) وأولاده المنصوص عليهم واحداً تلو الآخر.
(ثانياً) ــــ  لو ثبت التوارث في الإمامة لكان ثَبُتَ ذلك للنساء والصبيان مع أن ذلك باطلٌ بإجماع الأمة.
(ثالثاً) ـــ يشترط في الإمامة النص منه تعالى، ولا شي‏ء منه في العبّاس وغيره.
(رابعاً) ـــ إنّ القول بالميراث يعني تسلط الفسّاق على الإمامة والحكم، وقد نهى اللَّه عزّ وجلّ عنه في محكم كتابه الكريم بقوله تعالى: وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وتسليط الفسّاق على سدة الحكم وارتضاؤهم له يعتبر ركوناً إليهم وهو حرام شرعاً.
من هنا يتضح فسادُ الطريقَينِ المتقدِّمَينِ بما تقدَّم من البراهين، هذا مضافاً إلى عدم عصمتهما عدا الأول وهو النص، وعلينا إثبات الدليل عليه، وهل أن النبي عيّن شخص الإمام بعده؟ ومَنْ هو هذا الإمام؟ هل هو مولى الثقلين أمير المؤمنين عليّ‏بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام) أو أبو بكربن أبي قحافة؟
استدلال العامة على خلافة أبي بكر:
 لقد استدلَ العامةُ على خلافة أبي بكر بوجهين:
الوجه الأول:
إن رسول اللَّه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قدّم أبا بكر على جميع أهل بيته وأصحابه، كي يصلي بالمسلمين إماماً، وحيث إن الصلاة عماد الدين، دل ذلك على أن أبا بكر إمام الأمة لرضا النبيّ به في الاقتداء به في الصلاة، فيكون مرضياً عنه لإمامته في أمر الدنيا وهو الخلافة.
وقد أفصح صاحب المواقف وابن حجر في الصواعق عن رأي العامة في خلافة أبي بكر، فقال الأول:
إنّ النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) استخلف أبا بكر في الصلاة حال مرضه واقتدى به وما عزله فيبقى إماماً فيها وكذا في غيرها إذ لا قائل بالفصل.
وقال الثاني: ووجه ما تقرر من أن الأمر بتقديمه للصلاة كما ذكر فيه الإشارة أو التصريح بأحقيته للخلافة، وأن القصد الذاتي من نصب الإمام العام، إقامة شرائع الدين على الوجه المأمور من أداء الواجبات وترك المحرمات وإحياء السنن وإماتة البدع، وأما الأمور الدنيوية وتدبيرها كاستيفاء الأموال من وجوهها وإيصالها إلى مستحقيها ودفع الظلم ونحو ذلك ليس مقصوداً بالذات بل ليتفرغ الناس لأمور دينهم، إذ لايتم تفرغهم إلا إذا انتظمت أمور معاشهم بنحو الأمر على الأنفس والأموال ووصول كل ذي حق إلى حقه، فلذلك رضي النبيّ لأمر الدين وهو الإمامة العظمى أبا بكر بتقديمه للإمامة في الصلاة ومن ثم أجمعوا على ذلك..".
يورد عليهما:
(أولاً)ــــ  دعوى أنّ النبيَّ الأعظم(صلَّى الله عليه وآله) استخلف أبا بكر في الصلاة بحاجة إلى برهان وبيان وما نسبوه إلى النبي من أنه أمر عائشة بأن تأمر أباها أبا بكر مردود من أصله لكثرة الاضطراب والاختلاف في دلالته، وذلك شاهدٌ  على فساده.
فروى أبو وائل، عن مسروق، عن عائشة، قالت: صلّى رسول اللَّه في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعداً.
وروى إبراهيم، عن الأسود عن عائشة في حديث: أن النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) صلى عن يسار أبي بكر قاعداً، وكان أبو بكر يصلّي بالناس قائماً.
وعن وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: قالت: صلّى رسول اللَّه في مرضه عن يمين أبي بكر جالساً وصلّى أبو بكر قائماً بالناس.
وفي حديث عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: صلّى رسول اللَّه بحذاء أبي بكر جالساً، وكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول اللَّه، والناس يصلون بصلاة أبي بكر.
ووجه الاضطراب واضح في هذه المرويات، وجميعها مروي عن عائشة، فتارة تقول: كان رسول اللَّه إماماً بأبي بكر، وتارة تقول: كان أبو بكر إماماً، وأخرى تقول: صلّى عن يمين أبي بكر، ورابعاً تقول: صلّى عن يساره، وخامساً تقول: صلّى بحذائه، وهذه أمور متناقضة تدل بظاهرها على الاضطراب والاختلاق مما يستوجب بطلان الحديث المزعوم، والشهادة عليه بأنه من الموضوعات.
(ثانياً) ــ كيف يصلّي النبيُّ الأكرم(صلوات ربي عليه وآله) جالساً، والمأمومون قياماً في حين أنّ عليهم الصلاة من جلوس اقتداءاً بالنبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، هذا مضافاً إلى مناقضة هذا الحديث لما أمر به النبيّ حسبما روى القوم في الصحاح عن عروةبن الزبير عن عائشة قالت: صلى رسول اللَّه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في بيته وهو شاك، فصلّى جالساً، وصلّى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمامُ ليُؤتمّ به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا".
وورد عن أنس بن مالك قال: "سقط النبيّ عن فرس فشجّ شقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة فصلّى بنا قاعداً فصلينا وراءه قعوداً، فلما قضى الصلاة قال: إنما جعل الإمام ليؤتمّ به، فإذا كبّر فكبروا، وإذا سجد فاسجدوا... وإذا صلّى قاعداً فصلّوا قعوداً أجمعون".
وفي رواية أخرى عن عائشة قالت: صلّى جالساً فصلوا بصلاته قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا فجلسوا.
وروى مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: اشتكى رسول اللَّه فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسْمع الناسَ تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياماً، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعوداً، فلمّا سلَّم قال: إنْ كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إنْ صلّى قائماً فصلوا قائماً، وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً.
فهذه الأحاديث تُبطل حديث صلاة أبي بكر، وتدلُّ على اختلاقه، لأنه يتضمن مناقضة ما أُمر به  كما في هذه المرويات  مما يستلزم القول بأن أبا بكر أقدم على الصلاة من دون أمر النبيّ ومشورته.
(ثالثاً) ـــ  إن حديث صلاة أبي بكر  الذي تفردت بنقله عائشة  يتعارض بما روي عن ابن عبّاس قال:
قال رسول اللَّه ابعثوا إلى عليّ‏ (عليه السَّلام) فادعوه، فقالت عائشة: لو بعثت إلى أبي بكر، وقالت حفصة: لو بعثت إلى عمر، فاجتمعوا عنده جميعاً فقال رسول اللَّه انصرفوا فإن تك لي حاجة أبعث إليكم فانصرفوا، وقال رسول اللَّه آن الصلاة؟ قيل: نعم، قال: فأمروا أبا بكر ليصلّي بالناس، فقالت عائشة إنه رجل رقيق، فمر عمر، فقال: مروا عمر فقال عمر: ما كنت لأتقدّم وأبو بكر شاهد، فتقدّم أبو بكر ووجد رسول اللَّه خفةً فخرج فلما سمع أبو بكر حركته تأخر فجذب رسول اللَّه ثوبه فأقامه مكانه وقعد رسول اللَّه فقرأ من حيث انتهى أبو بكر.
والمُلاحظ في هذا الحديث أن النبيّ وقع في تهافت  وحاشاه أن يقع  إذ كيف يأمر أبا بكرفبن أبي قحافة بالصلاة ثم ينتره بثوبه ليصلّي مكانه، لولا أنه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أراد أنْ لا تكون صلاة أبي بكر ممسكاً عليه إلى آخر الدهر، وإلا لو كان النبيّ راضياً عن أبي بكر لما كان قطعه عن الصلاة، في حين أن العامة أنفسهم رووا على النبي‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنه صلّى خلف عبد الرحمن‏ بن عوف الزهري، فليكن أبو بكر  على أقل تقدير مساوياً لعبد الرحمن  فلا يجذبه النبيّ بثوبه ليصلّي مكانه. وعلى فرض إقتداء النبيّ بعبد الرحمن أو بأبي بكر فلا يوجب ذلك فضلاً على النبيّ ولا على غيره من المسلمين.
ولو كان الرسول‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) راضياً عن صلاة أبي بكر لما خرج معصّباً رأسه متكئاً على الفضل‏فبن عبّاس وعلى يد رجل كريم تناست ذكر اسمه عائشة، وقد روى مسلم بذلك أخباراً مستفيضة عن عائشة قالت: أول ما اشتكى رسول اللَّه في بيت ميمونة، فاستأذن أزواجه أنْ يمرَّض في بيتها، وأذن له، قالت: فخرج ويدٌ له على الفضل‏فبن عبّاس، ويد له على رجلٍ آخر، وهو يخطُّ برجليه في الأرض، فقال عبيد اللَّه: فحدّثت به ابن عبّاس، فقال: أتدري من الرجلُ الذي لم تسمِّ عائشة؟ هو عليّ‏ (عليه السَّلام).
فخروج النبيّ بهذه الحالة لينحّي أبا بكر عن الصلاة، له دلالاته الهامة، وعلى أقل تقدير كان على النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنْ يتركه يؤمّ الصلاة  لو كان يُحسن الظن به  حتى لا يسي‏ء أحد من المسلمين به الظن وأنه غير جدير بإمامة صلاة، فكيف بإمامة العباد والبلاد!!
هذا مضافاً إلى أنهم لا يختلفون أنه عليه وآله الصلاة والسلام أمّر عمرو بن العاص على أبي بكر وعمر وجماعة من المهاجرين والأنصار، وكان يؤمُّهم طول زمان إمارته في الصلاة، ولم يدل ذلك على فضله عليهم بحسب ما يذهبون إليه من تقديمهما على عمروف بن العاص.
ويروى أن سالم مولى أبي حذيفة كان يؤم المهاجرين قبل مقدم النبي إلى المدينة.
(رابعاً) ـــ إن إمامة أبي بكر للصلاة ليست فضيلة له، ولا توجب أن يكون إماماً على هذه الأمة، وذلك لما يروون من أنّ النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال لأمته: "صلوا خلف كل برٍ وفاجر". فأباح لهم النبيّ بحسب مضمون هذا الحديث الصلاة خلف الفجّار والفساق، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه بطل ما اعتمدوه من فضل أبي بكر في الصلاة.
هذا مضافاً إلى تجويزهم الصلاة خلف كل مفتونٍ ومبتدع، فقد روى البخاري عن أبي التّياح أنه سمع أنس‏فبن مالك يقول: قال النبيُّ لأبي ذر:
اسمع وأطع ولو لحبشي كأنَّ رأسه زبيبة.
بل إنّ عزل أبي بكر عن الصلاة بعد تقدمته  على فرض أنّ النبيّ قدّمه  إنما كان لإظهار نقصه عند الأمة وعدم صلاحيته للتقديم في شي‏ء، فإن من لا يصلح أن يكون إماماً للصلاة مع أنه أقل المراتب عند العامة لصحة تقديم الفاسق فيها، فكيف يصلح أن يكون إماماً عاماً ورئيساً مطاعاً لجميع الخلق، فكان قصده صلوات اللَّه عليه وآله إن كان وقع هذا الأمر منه إظهارَ نقصِ أبي بكر وعدم صلاحيته للتقديم في ذلك، فيكون حجة عليهم لا لهم.
وما أشبه هذه القصة بقصة سورة براءة وعزله عنها، وإنفاذه بالراية في يوم خيبر، فإن ذلك كله كان بياناً لإظهار نقصه وعدم صلاحيته لشي‏ء من أمور الدين والدنيا.
(خامساً) ـــ  إنّ حديث صلاة أبي بكر وإصرار هذه المرويات على تقديمه على غيره من الصحابة لا سيما مولى الثّقلين أمير المؤمنين علي‏ِِّّ بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام) لا شك أنّ فيه غميزة بعمرف بن الخطاب حيث قام ليصلي فأبعده النبيُّ الأعظم(صلَّى الله عليه وآله) لأنه كان يريد  بزعمهم  أبا بكر.
فعن عبد اللَّه ابن زمعة بن الأسود قال:
لما استعزّ برسول اللَّه وأنا عنده في نفر من المسلمين، قال: دعاه بلال إلى الصلاة، فقال: مروا مَنْ يصلّي بالناس، قال فخرجت فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائباً، فقلت: قم يا عمر فصلِّ بالناس، قال: فقام، فلما كبّر، سمع رسول اللَّه صوته، وكان عمر رجلاً مجْهراً، قال: فقال رسول اللَّه فأين أبو بكر؟ يأبى اللَّه ذلك والمسلمون، يأبى اللَّه ذلك والمسلمون. قال: فبُعث إلى أبي بكر، فجاء بعد أن صلّى عمر تلك الصلاة، فصلّى بالناس. قال عبدفاللَّه‏فبن زمعة: قال لي عمر: ويحك ماذا صنعت لي يابن زمعة، واللَّه ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول اللَّه أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس، قال: قلت: واللَّه ما أمرني رسول اللَّه بذلك، ولكني حين لم أرَ أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس.
نلاحظ هنا:
(أولاً): إن عمر بن الخطّاب لو كان أهلاً لإمامة الصلاة لما نهره رسول اللَّه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عنها، فحيث أصرّ على أبي بكر دون عمر دل ذلك على عدم أهليته ولياقته لكي يؤم المسلمين بالصلاة.
(ثانياً): كما أن عبد اللَّه بن زمعة تصرف بدون إذن النبيّ فأمر عمر بالصلاة دون أبي بكر، كذا أمكن لعائشة أن تتصرف بإعطاء الأمر دون إذن النبيّ لها بذلك، وعلى كلا التقديرين فإن الأمر بالصلاة لم يكن مباشرة من النبيّ وإنما بواسطة، والواسطة يحتمل بحقها الكذب، ومن احتمل بحقه الكذب لم يبق في هذا الأمر حجة.
(ثالثاً): لم يرَ عبدُ اللَّهِ بن زمعة في الصحابة من هو أفضل من عمر، فأين نص الغدير الذي كان حجة على ابن زمعة ومن شاكله من القوم، لكنّ حب الدنيا حجب نور الحق عن قلبه، مما يعطينا انطباعاً خاصاً عن نفاق بعض الصحابة وعدم تورعهم عن الكذب على رسول اللَّه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
(سادساً) ــــ لو كان خبر تقديم أبي بكر في الصلاة صحيحاً  كما زعموا  وكان مع صحته دالاً على إمامته لكان ذلك نصاً من النبيّ بالإمامة، ومتى حصل النص لا يحتاج معه غيره، فكيف لم يجعل أبو بكر ونظيره عمر ذلك دليلاً على إمامة أبي بكر؟! وكيف لم يحتجوا به على الأنصار؟! وكيف بنوا الخلافة على المبايعة التي حصل فيها الاختلاف والاحتياج إلى إشهار السيوف، وعدلوا عن الاحتجاج بالنص المذكور؟ مع وضوح أن العاقل لا يختار الأعثر الأصعب مع وجود الأسهل إلاّ لعجزه عنه، فعُلم أن ذلك ليس فيه حجة أصلاً.
(سابعاَ) ــ ومما يشهد أن الأمر بالصلاة لم يكن عن رأي رسول اللَّه وإذنه وأمره أن حديث صلاة أبي بكر جاء من غير طريق عائشة أنها قالت: جاء بلال فأذّن بالصلاة ورسول اللَّه مغمىً عليه، فانتظرنا إفاقته وكاد الوقت يفوت، فأرسلنا إلى أبي بكر يصلّي بالناس.
وهذا صريح منها بأن صلاته كانت عن أمرها ورأيها، دون أمر رسول اللَّه وإذنه ورأيه.
ويؤيد ذلك ويكشف عن صحته، الإجماع على أن رسول اللَّه خرج مبادراً معجّلاً بين يدي رجلين من أهل بيته أحدهما أمير المؤمنين عليّ‏بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام) حتى تلافى الأمر بصلاته وعزل الرجل عن مقامه، وقد ذم النبيُّ الأعظم عائشة وحفصة لعظيم فتنتهما في الأمة بقوله "إنكن كصويحبات يوسف" وهو إخبار عن إرادة كل واحدة منهما المنزلة بصلاة أبيها بالناس، ولو كان النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) تقدّم بالأمر لأبي بكر بالصلاة لما حال بينه وبين تمامها، ولا رجع باللوم على غيره فيها.
(ثامناً) ــــ  إن إمامة أبي بكر في الصلاة وقياسها على إمامة الدين، معارض باستخلاف النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لأمير المؤمنين عليّ‏بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام) في غزوة تبوك ولم يعزله، وإذا كان خليفة على المدينة، كان خليفة في سائر وظائف الأمة، ولا قائل بالفصل، لأن استخلافه على المدينة أقرب إلى الإمامة الكبرى لكونه متضمناً لأمور الدين والدنيا بخلاف الاستخلاف في الصلاة.
(تاسعاً) ـــ  الأحاديث في إمامة أبي بكر مضطربة جداً، فتارة أنّ النبيَّ أمر عمر بن الخطاب، وأخرى أمر أبا بكر، وثالثة أمر بلالاً أن يأمر أبا بكر، مما يُذْهب بإطمئنان التصديق بالحادثة، مضافاً إلى وقوع الاضطراب في أصل الصلاة التي صلاّها أبو بكر هل هي الظهر أو العصر أو الصبح، إلى ما هنالك من اضطرابات في أصل الحادثة وخصوصياتها مما يسقطها عن الحجية والاعتبار.
(عاشراً) ــــ  إن قياس أمر الخلافة على إمامة الصلاة مبنيٌ على إثبات حجية القياس الذي قال بحجيته العامة، وحرّمه الشيعة الإمامية وجمهور الظاهرية والمعتزلة.
الوجه الثاني:
من الوجوه التي استدل بها العامة على إمامة أبي بكر، هو الإجماع على انعقاد الإمامة له، سواءٌ فُسّر الإجماع باتفاق الكل كما حُكي عن المنخول، أو اتفاق أهل الحل والعقد أو اتفاق أهل المدينة كما في أصول الخفري، أو اتفاق العلماء.
والجواب:
1ــــ إن إجماع الأمة كلها على خلافة أبي بكر لم يتحقق في وقت واحد بعد وفاة رسول اللَّه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) مباشرة، وهذا واضح مع قطع النظر عن عدم حضور أهل البيت‏ (عليهم السَّلام) وبعض الصحابة كسعدبن عبادة سيد الأنصار وأولاده وأصحابه، وكذا سلمان وأبي ذر والمقداد وبني جعفر وغيرهم من بني هاشم وسادات الحرمين وعظماء المسلمين.
وأما دعوى تحققه بعد وفاة النبيّ بزمن بعيد، فهي خلاف حقيقة الإجماع الذي يعتبر فيه اتحاد الوقت، وعلى فرض تحققه بعد زمن طويل فإنه لا يكون حجة إلاّ إذا دخل الباقون فيه طوعاً، أما إذا استظهر الأكثر وخاف الأقل، ودخل فيما دخل فيه الأكثر خوفاً وكرهاً فلا، ولا شك أنّ الحال كان كذلك، فإنّ بني هاشم لم يبايعوا أولاً، ثم قُهروا فبايعوا بعد مدة، وأما أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) فقد أخرجوه من داره ليبايع وهو مقاد بحمائل سيفه.
وما قيل من أن أمير المؤمنين عليّاً (عليه السَّلام) بايع مكرهاً غير صحيح، ولا برهان عليه سوى بعض الأقاويل مصدرها العامة، لذا قال الشيخ المفيد (قدّس سرّه) أحد أعلام الإمامية (355_436هـ):
أجمعت الأمة على أن أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) تأخر عن بيعة أبي بكر، فالمقلل يقول: كان تأخره ثلاثة أيام، ومنهم من يقول: تأخر حتى ماتت السيّدة فاطمة (عليها السَّلام) ثم بايع بعد موتها، ومنهم من يقولْ تأخر أربعين يوماً، ومنهم من يقول: تأخر ستة أشهر والمحققون من أهل الإمامية يقولون: لم يبايع ساعة قط. ومما يدل على أنه لم يبايع البتة، أنه ليس يخلو تأخره من أن يكون هدى وتركه ضلالاً، أو يكون ضلالاً، وتركه هدى وصواباً، أو يكون صواباً وتركه صواباً، أو يكون خطأً وتركه خطأ، فلو كان التأخر ضلالاً وباطلاً، لكان أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) قد ضل بعد النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بترك الهدى الذي كان يجب المصير إليه وقد أجمعت الأمة على أن أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) لم يقع منه ضلال بعد النبيّ ولا في طول زمان أبي بكر وأيام عمر وعثمان وصدراً من أيامه حتى خالفت الخوارج عند التحكيم وفارقت الأمة، وبطل أن يكون تأخره عن بيعة أبي بكر ضلالاً.
وإن كان تأخره هدى وصواباً وتركه خطأً وضلالاً فليس يجوز أنْ يعدل عن الصواب إلى الخطأ ولا عن الهدى إلى الضلال لا سيما والإجماع واقع على أنه لم يظهر منه ضلال في أيام الثلاثة الذين تقدّموا عليه، ومحال أن يكون التأخر خطأً وتركه خطأً للإجماع على بطلان ذلك أيضاً ولما يوجبه القياس من فساد هذا المقال.
وليس يصح أن يكون صواباً وتركه صواباً لأن الحق لا يكون في جهتين مختلفتين ولا على وصفين متضادين، ولأن القوم المخالفين لنا في هذه المسألة مجمعون على أنه لم يكن إشكال في جواز الاختيار وصحة إمامة أبي بكر.... فثبت بما بيّناه أن أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) لم يبايع أبا بكر على شي‏ء من الوجوه كما ذكرناه وقدّمناه..".
وبالجملة: فإن أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) لم يبايع أبا بكر، وما ورد على فرض صحته "من أنه‏ (عليه السَّلام) مد يده من غير أن يفتح كفه فضرب عليها أبو بكر ورضي بذلك "أي أن الثاني صفق على يد أمير المؤمنين" فهو لا يدل على البيعة أصلاً لا مختاراً ولا مكرهاً، لأن قبض اليد دلالة الإحجام والانقباض عن مصافحة المغتصبين.
وأما ما ورد من أنه قال: "لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين" فعلى فرض صحة صدوره عن أمير المؤمنين عليه السلام فليس فيه أية إشارة إلى بيعة القوم ولو كرهاً، وإنما كل ما في الأمر أنه سكت ولم يحاربهم بسيف لقلة الأعوان والأنصار.
2 ــــ إنّ تخصيص الإجماع بأشخاص معدودين دون آل البيت‏ (عليهم السَّلام) وبعض أصحاب النبيّ من المهاجرين والأنصار لا سيما سعدبن عبادة وسلمان والمقداد وعمار وغيرهم يعدُّ تخصيصاً من دون دليل؛ أوَليس هؤلاء من المسلمين، وأوَليسوا من أهل المدينة أو من أهل الحل والعقد؟!! فما هذه الغميضة في حقهم وعدم الالتفات إليهم؟!! وهل هذا إلاّ جفاء وشقاء بالنسبة إلى هؤلاء النبلاء؟.
3 ـــــ إنّ الشيعة لا يعتبرون الإجماع حجة شرعية إلاّ إذا كشف عن رأي المعصوم‏ (عليه السَّلام)، فهو حجة حينئذٍ لهذا المناط، وحيث إن بيعة أبي بكر لم تقترن بموافقة أمير المؤمنين علي‏ (عليه السَّلام) لم يتم عندهم الإجماع الحجة، ولو سلمنا بوجود إجماع، فحيث إن مَنْ يدور معه الحق حيثما دار (باتفاق النصوص عند الطرفين) غير راضٍ عن اجتماعهم يومذاك فلا قيمة حينئذٍ لذاك الإجماع، لكونه يعبّر عن آراء جماعة في مقابل النص القطعي الدال على أحقية الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام) من غيره ممن ادّعى الخلافة لنفسه زوراً، فيعتبر وقوف الإمام‏ (عليه السَّلام) بوجه المجمعين ضربة قوية للإجماع، وهدماً لأُسسه لأنه لو كان مع الحق لوقف الإمام‏ (عليه السَّلام) بجانبه، فحيث إنه‏ (عليه السَّلام) كان ضده، يكشف هذا عن كون الإجماع أمراً باطلاً فلا حجية فيه.
4 ــــ إذا كان الإجماع منعقداً على أبي بكر، فلما لم ينعقد على ابن الخطّاب الذي عُيّن من قبل أبي بكر، فالسابق كان يعيّن اللاحق، وحيث إنّ التعيين باختيار الأمة لم يتكرر، فكيف يكون الإجماع حجةً على بيعة الأول دون الثاني؟!
 

شبهة:

قد يقال: إنّ المراد بأهل الحل والعقد، إجماع أهل الصدر الأول وأنه وإنْ لم يتحقق على خلافة أبي بكر يوم السقيفة لكنّه بعد ذلك إلى ستة أشهر قد تحقق اتفاق الكل على خلافته ورضوا بإمامته فتمّ الإجماع حينئذٍ.
 

والجواب:
إن الإجماع غير محقق بعدم بيعة مولى الثّقلين أمير المؤمنين عليّ‏بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام) وأصحابه حتى بعد ستة أشهر، بل إن سعدفبن عبّادة وأولاده لم يبايعوا قطعاً، لذا قتله ابن الخطّاب وأشاع بين الناس أن الجنّ قتله، فيكون خروج المعارضين خرقاً للإجماع المدّعى.
وبهذا يتبيّن عدم صحة خلافة أبي بكر، وما اعتمده العامة على خلافة أبي بكر لا يصلح للدليلية، فهو كناقل الشوكة بالشوكة، وكنافخ في غير ضرام.
والأنكى من ذلك أن ابن حجر الهيثمي المكي (899_974هـ) ادّعى: "أن النبيّ نص على أبي بكر ظاهراً"، ولكنّه لم يظهر لنا نصاً واحداً على مدعاه، مع دعواه أيضاً: "أن النبيّ لو أوصى إلى غير أبي بكر  يقصد الإمام عليّاً  لوجب على الأمة مبايعته، ولبالغ رسول اللَّه في تبليغ ذلك الواجب إليهم بأن ينص عليه نصاً جلياً ينقل مشتهراً حتى يبلغ الأمة فألزمهم، ولمّا لم ينقل كذلك مع توفر الدواعي على نقله، دل على ذلك على أنه لا نص".
ليت شعري كيف أنه قَلَبَ الحقائق وأنكر الحق والموازين، وهو نفسه عقد فصلاً خاصاً بخلافة الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام) وزيّنه بذكر فضائله ومآثره وكراماته، أوَليست الكرامات والفضائل والمآثر دليلاً على أحقيته وعلو شأنه؟! أم أن الفضيلة شي‏ء والخلافة شي‏ء آخر كما ادعوا؟! وهل رضي اللَّه أن يكون الخليفة جاهلاً فاسقاً؟! كلا وألف كلا.
وها هي كتبهم ومصادرهم تعج بمناقب الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام) وبما ورد عن الرسول الكريم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في حق الإمام، وأن هذا العبد المطيع للَّه ولرسوله قد قال عنه النبيُّ يوم خيبر:
"لأعطينّ هذه الراية رجلاً يفتح اللَّه على يديه، يحب اللَّه ورسوله، ويحبه اللَّه ورسوله"، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيُّهم يُعطاها، قال عمرفبن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذٍ، فتساروت لها رجاء أن أُدعى لها، قال: فدعا رسولُ اللَّه عليّ‏فبن أبي طالب فأعطاه إيّاها، وقال: "امشِ حتى يفتح اللَّه عليك".
ونحن نسأل: هل يحبُّ اللَّه رجلاً فاسقاً جاهلاً ليس أهلاً للخلافة؟ وقد تشدق العامة مستدلين على خلافة أبي بكر بحديث إمامته للصلاة من باب القياس، ولا يستدلون على خلافة الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام) بهذا الحديث وغيره من الأحاديث القطعية الصدور والدلالة على خلافته وهي من حيث الوفرة والكمية ليس لأحد ممن تقدّم على أمير المؤمنين مثلها نوجزها بما يلي ونحيل بالرجوع إلى المصادر الكبرى.
الأحاديث المقرّرة:
1  حديث: الخلافة.
2  حديث: الوصية.
3  حديث: من أحب أصحابك؟.
4  حديث: لكل نبي وصي ووارث.
5  حديث: قراءة سورة براءة.
6  حديث: المناجاة.
7  حديث: المباهلة.
8  حديث: المنزلة.
9  حديث: إني رافع الراية غداً.
10  حديث: سد الأبواب إلا باب عليّ‏ (عليه السَّلام).
11  حديث: المؤاخاة.
12  حديث: إن علياً مني وأنا منه.
13  حديث: إن فيك مثلاً من عيسى.
14  حديث: لا يحبك إلا مؤمن.
15  حديث: خاصف النعل.
16  حديث: الطائر المشوي.
17  حديث: أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها.
18  حديث: كسر الأصنام وردّ الشمس.
19  حديث: الحق مع علي.
20  حديث: الثّقلين.
21  حديث: الكساء.
22  حديث: الأمان.
23  حديث: اثنا عشر خليفة.
24  حديث: كونه‏ (عليه السَّلام) نوراً بين يدي اللَّه تعالى.
وغيرها من الأحاديث الجليلة الدالة على فضل أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام)، أليست كلها قرائن واضحة على صحة إمامته وأحقيته بالخلافة من غيره ممن نسبوا إليهم بعض الفضائل لتكون وساماً رفيعاً لأصحابها لينالوا شرف الخلافة، ومن هذه الألقاب: الصدّيق والفاروق وذو النورين وأمثالها ولكنهم نسوا بل تناسوا وتجاهلوا الآيات العظام والأحاديث الضخام الواردة بشأن مولى الثّقلين، هذا مضافاً إلى سيرته الطاهرة وعلو همته وغيرها من الصفات التي لم ينكرها حتى الأعداء، فهيهات أن يقاس بالإمام عليّ‏ (عليه السَّلام) أحد من الناس، فإنه  على حد تعبير ابن أبي الحديد  كالمسك كلما سُتر انتشر عرفه، وكلّما كُتِم تضوّع نشره، وكالشمس لا تُستر بالراح، وكضوء النهار إنْ حُجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة.
عود على بدء:
لقد أثبتنا بالإجمال بطلان طريقي الاختيار والميراث الدالّين على إثبات الخلافة، فيبقى الطريق الأخير عنيت به "النص" من اللَّه على لسان رسوله العظيم في تعيين الخليفة، وسوف تأتيك الأدلة عليه.
• بيان الأدلة على بطلان خلافة أبي بكر:
وهي كثيرة إليك بعضاً منها.
الأول: إنّ الخلافة نيابة عن الرسول الكريم‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، والنائب يشترط فيه أن يحمل المواصفات والخصال الحميدة التي كان يحملها المنوب عنه، ومسألة الخلافة هي من أمهات الأمور التي يجب مراعاة مواصفاتها وشروطها، تماماً كما هي شروط ومواصفات النبوة من العصمة والكمال والعلم والصفات الأخرى الكمالية، لأن معنى كونه خليفة لا بد أن يتصف بنفس الصفات التي كان عليها النبيُّ، لأن مسألة الخلافة أو الإمامة ليست مركزاً دنيوياً، تفويض أمرها إلى الناس فتكون كسائر المناصب الدنيوية كرئاسة الجمهورية في أزمنتنا الحاضرة، الأمر ليس هكذا، بل إن مسألة الخلافة فوق ما يتصوره السطحيون، إنها إمرة إلهية تعيينها بيده تعالى لكونها استمراراً لوظائف النبوة ولا تفترق عنها سوى بالوحي التشريعي، لأن الإمام يقوم بكل ما كان يقوم به النبيُّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من البيان والتبليغ وتفصيل المجملات وتفسير المعضلات، وإظهار ما لم يتسنّ للرسول العظيم الإشارة إليه لعدم توفُّر الظروف الموضوعية أو المناسبة لذلك، أو لعدم تهيؤ النفوس لتقبل الحكم الشرعي، مع وجود أحكام مشرّعة لم يحن الوقت لتبليغها، عدا عن أنّ الإمام ببيانه يكمل الشريعة ويزيح شبه الملحدين، ويدرأ عن الدين عادية أعدائه بقوته وسلطانه، وبالجملة كل ما كان ملقى على عاتق الرسول من وظائف ومسؤوليات وغيرها هو ملقى على عاتق الإمام إلاّ التشريع.
وهناك شروط لا بدّ من توفرها بالإمام وليس كما يتوهم العامة عدم اشتراط شي‏ء مما كان مشروطاً في النبيّ من العصمة والتسديد ولا أن يكون عارفاً بأصول الشريعة وفروعها ومعارفها العليا، لأن الهدف المتوخى من الإمام  حسبما يدّعون  هو أعمال السلطة وقيادة الهيئة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتكفيه المقدرة العادية والعلم بمقدار محدود، وقد عبّر الباقلاني عن ماهية الخليفة حيث قال:
"يجب أن يكون الإمام على أوصاف منها: أن يكون قرشياً من الصميم وأن يكون من العلم بمنزلة من يصلح أن يكون قاضياً من قضاة المسلمين، وأن يكون ذا بصيرة بأمر الحرب وتدبير الجيوش والسرايا وسد الثغور.
هكذا ينظر الأشاعرة إلى الإمامة أو الخلافة، فعلام إذن يكفّرون الشيعة ما دامت الخلافة أمراً اعتبارياً كبقية المناصب والمراسيم الوضعية؟
إنّ الخلافة  بنظر المسلمين الشيعة الإمامية  هي سفارة ربّانية لا ينالها إلاّ من ارتقى في عالم الملكوت، من هنا فإن الإمامة التي هي من مختصات أهل البيت‏ (عليهم السَّلام) كانت لجدهم إبراهيم الخليل حيث شرّفه بها بعد النبوة والرسالة بقوله تعالى:
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.
فالآية تتناول موضوع مطلق الإمامة التي تشرّف بها ابراهيم خليل الرحمن، هذه الإمامة التي هي أرقى من مقام الرسالة، والتي يعبّر عنها بالخلافة وهي في الواقع أثر من آثار الرسالة ورشح من رشحاتها، والخلافة بهذا المعنى هي من لوازم إمامتهم المطلقة التي يطلق عليها اسم "الولاية"، فولايتهم تعني الإمامة المطلقة التي من لوازمها العلم المطلق والقدرة المطلقة، وهي بهذا المعنى أرقى من الخلافة التي نصطلح على تسميتها ب"مطلق الإمامة".
إشكال:
كيف قلتم انّ مطلق الإمامة أرقى من مقام الرسالة، وفي نفس الوقت هي أثر من آثارها، أليس هذا تعارضاً في القول؟!
والحل:
لا تعارض عند التأمل، وذلك لأن الخلافة أو الإمامة بالمعنى الأخص هي مقام تنفيذي، الحصول عليه فرع وجود المقام التشريعي  أعني مقام الرسالة  ولمّا كان ابراهيم الخليل رسولاً مشرّعاً إحتاج إلى مقام آخر يكون من خلاله قادراً على تنفيذ أحكام اللَّه تعالى، وهذا المقام هو مقام مطلق الإمامة، إذْ لولا الرسالة لما كان لمقام "مطلق الإمامة" دور في المجال التطبيقي، فه بهذا المعنى رشح من رشحات الرسالة فتدبر.
وعلى أساس هذا التمايز بين الإمامة المطلقة ومطلق الإمامة، نرى أنّ أئمة آل البيت‏ (عليهم السَّلام) لم يهبطوا عن مستوى الإمامة المطلقة حينما أهبطوهم عن مستوى مطلق الإمامة، فالثانية فرع الأولى، وعلى كلا التقسيمين للإمامة لا بُدّ أن يتوفر في مطلق الإمام  عنيت الخليفة عنصر ملكة العدالة، ونعني بالملكة: الصفة الواقعية في العدالة التي يجب أن يتحلى بها الإمام، ولا نريد العدالة بمعناها الظاهري المشهور وهو المحافظة ظاهراً على ظواهر الشريعة.
إنّ مفهوم العدالة  بحسب الفهم القرآني  هي الصفة الواقعية التي لا تفارق العبد في آن من آناته أو لحظة من لحظات حياته، وكل من تلبّس بظلم خلال فترة وجوده فهو ظالم ولو كان ظلمه لفترة زمنية مضت. فالآية الكريمة تتناول عدالة الإمام الواقعية بحيث لا يستحق تلك الإمامة من كان خارجاً عنها ولو للحظة من عمره حتى ولو تاب بعدئذ وذلك لأمرين:
الأمر الأول:
أن الإمامة عهد من اللَّه العليّ القدير ويؤيده قوله تعالى في ذيل الآية لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وفي نفس الوقت هي إمرة ربانية ووثيقة إلهية لا تنالها يد الظالمين، لأن مفهوم الإمام  بحسب المنهج القرآني  هو الإنسان المثالي، الذي يفترض أن يكون نقي الثوب، مشرق الصحيفة، ناصع السيرة، يكون لأمره ونهيه نفوذ في القلوب، ولا تكون قيادته محلاً لطعن الطاعنين وانتقاداتهم، بل يجب أن يكون على حالة من الكمال بحيث يستقبله الناس بوجوه ملؤها الإجلال والإكبار، وهذا لا يكون سوى لشخصٍ لم يعصِ اللَّه تعالى طيلة حياته، أما إذا كان في فترة من عمره مقترفاً للذنوب والمعاصي فلا شك أنه سيكون عرضة لسهام الناقدين، ولا تقبل أقواله أو قيادته بسهولة، لذا يفرض العقل بلزوم نقاوة الإمام عن كل زلة ومعصية، وأن الإنابة لو كانت ناجحة في حياته الفردية لا تكون ناجحة في حياته الاجتماعية، ولا يقع أمره ونهيه موقع القبول.
الأمر الثاني:
إنّ كلمة "الظالمين" الواردة في الآية جمع محلّى باللام وهو  بحسب الاصطلاح الأصولي  يفيد الاستغراق الإفرادي والزماني، فإذا كان الظالمون بعامة أفرادهم ممنوعين من نيل الإمامة، يكون الظلم بكل أنواعه وصوره وأزمانه مانعاً من الرقي لهذا المنصب الخطير.
والحكم بعدم استحقاق الظالم للإمامة لا يدور مدار ثبوت الموضوع كما تصوّرَ  العامةُ، حتى إذا ما انتفى الموضوع  وهو الظلم  انتفى الحكم  وهو عدم استحقاق الإمامة لو كان ظالماً  بل الحكم هنا في الآية يدور مدار وجود الوصف والعنوان وكان للحظة أو آنٍ ما، لعموم اللفظ الدال على عموم الحالات والأزمان من دون أن يرد مقيّد أو مخصص، فيبقى اللفظ على عمومه.
مثال ذلك: الزاني والسارق يبقى محكوماً عليه بالحدّ وإنْ زال عنوان التلبس بالزنا أو السرقة، بل وإن تاب بعد ثبوت الحكم في حقه. ومثله عنوان المستطيع، فمن استطاع الحج يجب عليه وإن زالت عنه الاستطاعة وصار فقيراً، ومثله عنوان "أمهات نسائكم" فمن اتصفت كونها أماً لزوجة ولو للحظة تحرّم على الزوج وإن زالت علقة الزوجية.
على هذا الأساس: فإن المشايخ الثلاثة ـــ أبو بكر وعمر وعثمان ـــ قضوا أعمارهم في المعاصي قبل الإسلام وبعده، ومن كانت سيرته كما وصفنا كيف يقاس بالإمام عليّ عليه السلام الذي لم يعهد منه خطل في رأي ولا فعل، بل بقي عمره منذ كان صغيراً مع رسول اللَّه لم يفارقه أبداً، وهل يقاسُ بمن شهد له اللَّهُ تعالى بالولاية عندما تصدق بخاتمه وطهّره بمحكم تنزيله، أحدٌ من الناس؟!
فلو دار الأمر بين إنسان كان طاهراً ونقياً جميع عمره وبين إنسان كان ظالماً في أول عمره تقياً في آخره فأيهما يختار ويفضّل العقل؟
والجواب: قطعاً يفضّل الأول على الثاني، ومن هذا القبيل يكون الخيار واقعاً على أمير المؤمنين دون سواه لسبق المعاصي منهم.
الثاني:
إنّ المتقدمين على الإمام‏ (عليه السَّلام) لم يكونوا بذاك المستوى من العلم والورع والجهاد، حيث لم يعرف لأحد منهم موقفٌ ولا مشهد، هذا بالإضافة إلى سبق إسلامه عليهم ولم يشرك باللَّه طرفة عين، فهو ممن شهد له الأعداء بفضله وعلو كعبه، وتقديم المفضول الأدنى على الفاضل الأرفع قبيح عقلاً وشرعاً.
أما العقل فإنه يوبّخ من قدّم الأدنى على الأرفع والأشرف، وهذا مبدأ عقلائي لا نزاع فيه.
وأما الشرع فإنه استنكر واعترض على من فعل ذلك بآيات كثيرة منها قوله تعالى: قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ.
في الآية توبيخ لأناسٍ جعلوا أنفسهم هداة وقادة للآخرين وهم أحوج للهداية من غيرهم، إذ كيف ينصّب الفاسق أو الجاهل نفسه هادياً وقائداً وخليفةً، وهو في نفس الوقت بحاجة لمن يهديه إلى الحق وبحاجة لمن يعلّمه محاسن الأخلاق وأصول الديانات؟!!
فلا يستوي عند اللَّه تعالى وعند العقلاء من كل دين، الجاهل والعالم، والفاسق والمؤمن، ولا الوضيع والشريف قال تعالى:قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ.
فمن أفتى من علماء العامة بوجوب تقديم أبي بكر وعمر على الإمام عليّ‏فبن أبي طالب فهو مصداق قوله تعالى: قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ.
إنّ اللَّه تعالى رفع من شأن العلماء والمجاهدين والطيبين وأصحاب البصائر والعدالة بقوله تعالى:
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ.
لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ.
قُل لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ.
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ.
هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ.
لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ.
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ.
فالعالم لا يُقرن بالجاهل، وقد اعترف أبو بكر بذلك عندما استلم الخلافة "وليتكم ولست بخيركم وعليٌّ فيكم" "وإن لي شيطاناً يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوّموني" وأكّد ذلك عمربن الخطاب فقال: "كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللَّه المسلمين شرها" وصرّح عن عجزه وجهله فقال: "حتى ربات الحجال أفقه منك يا عمر".
"لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن".
"لولا عليٌّ لهلك عمر". وأيضاً قال: "عليٌّ أقضانا".
ولمّا اعترف الشيخان بجهلهما وعدم فقههما فلِمَ يضعهما الاتباع في غير المحل المناسب لهما، أليس هذا إجحافاً بغيرهما؟!! أليس هذا خلافَ ما أراد اللَّهُ تعالى؟!
إن المتقدّمين على مولى الثّقلين أدون منه علماً وعملاً وحسباً ونسباً وجهاداً وتضحية وإيماناً، "بل لا يقاس بآل محمد أحد من الناس".
ورد في ذخائر العقبى ص17 عن أنس بن مالك أنه قال:
قال رسول اللَّه: نحن أهل بيت لايقاسُ بنا أحدٌ.
وفي ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص253 أنه قال بعد حديث ابن عمر: قال أحمدفبن محمد الكُرزُري البغدادي: سمعت من عبدفاللَّه‏فبن أحمدفبن حنبل قال: سألت أبي أحمدفبن حنبل عن أفضل الصحابة؟ فقال: أبو بكر وعمر وعثمان، ثم سكت، فقلت: أين عليّ‏فبن أبي طالب؟
قال: هو من أهل بيتٍ لا يقاسُ به هؤلاء.
وروى في الجزء السادس من كنز العمال عن فردوس الأخبار للديلمي قال: قال‏ (عليه السَّلام): نحن أهل بيتٍ لا يقاسُ بنا أحدٌ.
وروى الخوارزمي الحنفي بإسناده عن رسول اللَّه: أن النبي‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: خير من يمشي على الأرض بعدي عليّ‏فبن أبي طالب.
وينقل ابن حجر الهيثمي عن ابن سمّان في كتابه المعروف ب"الموافقة" بإسناده عن ابن عبّاس أنه قال:
لما جاء أبو بكر وعليٌّ لزيارة قبر النبي‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بعد وفاته بستة أيام، قال عليٌّ لأبي بكر: تقدم، فقال أبو بكر: لا أتقدّم رجلاً سمعتُ رسول اللَّه يقول فيه: عليٌّ مني كمنزلتي من ربي.
وعن ابن عبّاس عن النبيّ قال:
عليٌّ باب حطة من دخل منه كان مؤمناً ومن خرج منه كان كافراً.
وأخرج الترمذي والحاكم عن عمران‏فبن حصين أن رسول اللَّه قال: ما تريدون من علي، ما تريدون من علي، إن علياً مني وأنا منه وهو وليُّ كل مؤمن من بعدي.
وقال‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "عنوان صحيفة المؤمن حب عليّ‏بن أبي طالب".
"عليٌّ إمام البررة وقاتل الفجرة منصور من نصره مخذول من خذله".
"عليٌّ مني بمنزلة رأسي من بدني".
"عليٌّ يزهر في الجنة ككوكب الصبح لأهل الدنيا".
"عليٌّ يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين".
وروى في نفس الفصل عن النبي‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنه قال عندما حاصر الطائف: "أوصيكم بعترتي خيراً، وإن موعدكم الحوض والذي نفسي بيده لتقيمن الصلاة ولتؤتنّ الزكاة ولأبعثنّ إليكم رجلاً مني أو كنفسي يضرب أعناقكم ثم أخذ بيد عليّ رضي اللَّه عنه ثم قال: هو هذا".
وفي رواية أنه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال في مرض موته:
"أيّها الناس يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي وقد قدّمت إليكم القول معذرة إليكم، إلاّ إني مخلّف فيكم كتاب ربي عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي، ثم أخذ بيد عليّ فرفعها، فقال: هذا عليٌّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض فأسألهما ما خلّفت فيهما".
الثالث:
إنّ المتقدّمين على مولانا أمير المؤمنين قد ظلموه، وكل ظالم ملعون، والملعون لا ينوب الرسول بالخلافة.
فهنا صغرى وكبرى منطقية.
أما الصغرى فتقريرها بوجهين:
الأول:
إن القوم نازعوه في الخلافة، وتقدّموا عليه، واستقلوا بالأمر دونه، وذلك حقه دونهم بالدلائل العقلية والنقلية، ومنازعتهم له على الخلافة ظُلْمٌ عليه، وقد ذمَّ اللَّه الظالمين وأوعدهم بالعذاب، منها قوله تعالى:
إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ.
وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً.
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا.
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً.
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ.
فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً.
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ.
يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ.
فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.
وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ.
ونظيرها من الآيات الكريمة الدالة على قباحة الظلم والظالمين، حيث إن اللَّه تعالى لم يرد لظالم أن يحكم أو يتسلط على الرقاب، لأن التسلط والحكم إمضاء للقبيح، واللَّه تعالى لا يفعل القبيح لكونه عبثاً يتنزه الحكيم عنه.
الثاني: على تقدير عدم ثبوت كون الإمامة حقاً لأمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام)، لكنها ليست حقاً لأحدٍ منهم بالنص من اللَّه ولا من رسوله، لأنهم جميعاً متفقون على أنّ النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يوصِ إلى أحدٍ، وأنه مات على غير وصيّة، فالمقتضى لإمامتهم بزعم أهل البدعة إنما هو رأي الأمة واتفاقهم عليه، ومعلوم أنّ الإمام علياً (عليه السَّلام) لم يكن حاضراً في وقت عقد البيعة يوم السقيفة ولا حصل منه موافقة على هذا الرأي السخيف، فلم تنعقد إمامتهم بمقتضى ما قرّروه ولم يثبت لهم حق على أحد من الأمة، لا سيّما أنّ مولاتنا وسيدتنا الصدّيقة الكبرى فاطمة بنت محمد (عليها السَّلام) وولديها الإمامين السبطين الحسن والحسين وكذا العبّاس عم النبي وأولاده وأسامةفبن زيد والزبير وعمار وسلمان وأبي ذر والمقداد وغيرهم لم يرضوا بخلافة أبي بكر واعتبروها حقاً اغتُصب من الإمام علي‏ (عليه السَّلام)، ومع هذا فإن طلب القوم من الإمام‏ (عليه السَّلام) أن يبايع يعتبر ظلماً وطلباً لما لم يثبت لهم ولم يستحقوه شرعاً، فضلاً عن إلزامهم له‏ (عليه السَّلام) بها والتشديد عليه والتهديد له بتحريق الدار وجمع الحطب عند الباب واعتدائهم على بضعة المصطفى فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين.
وقد اعتذر بعض المتعصبين للشيّخين بأنّ الإمام علياً (عليه السَّلام) لم يتخلّف عن البيعة لأبي بكر إلاّ رعاية لحق الصدّيقة السيدة الزهراء (عليها السَّلام) لكونها لم تكن راضية، وأما زوجها فقد كان راضياً.
والجواب:
1  أما كونه‏ (عليه السَّلام) راضياً فلم يُنْقَل عنه هذا بغير خلافٍ بين المؤرخين.
2  وعلى تقدير كونه راضياً، لكنه هل رضي أنْ تُظلم الصدّيقة الزهراء (عليها السَّلام)؟! وهي القائلة للشيخين حينما زاراها: "... فإني أشهدُ اللَّه وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبيَّ لأشكوّنكما إليه.. ثم قالت لأبي بكر: واللَّه لأدعونّ اللَّه عليك في كل صلاة أصليها".
وهل يتصور عاقلٌ أن أمير المؤمنين عليّاً (عليه السَّلام) يسخط السيدة روح النبيّ الحوراء الزهراء عليها السلام ليرضي الشيخين اللذين ظلماه وزوجته عليهما السلام؟!!
وكيف يُرضيهما وهو القائل:
"لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أنّ محلِّي منها محلّ القطب من الرّحى، ينحدر عن السيل ولا يرقى إلي الطير... إلى أن يقول: فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجاً أرى تراثي نهباً، حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده..".
والتقّمص كناية عن اغتصاب الخلافة التي هي حق له‏ (عليه السَّلام)، ويؤكد هذا نفس قوله‏ (عليه السَّلام): "أرى تراثي نهباً" اغتصبه الأول بتدبير الثاني، ثم رده الأول عليه.
وله اعتراضات كثيرة على الظالمين له باغتصابهم حقه والاعتداء عليه وعلى سيّدة النساء مولاتنا فاطمة (عليها السَّلام)، فكيف جاز حينئذٍ أنْ يترك حقاً واجباً عليه  وهو على أقل تقدير نصرة السيدة الزهراء التي يرضى اللَّه لرضاها ويسخط لسخطها حسبما جاء في المتواتر  وكيف يجرؤ هؤلاء بأن ينسبوا إلى الإمام عليّ رضاه عن الشيّخين اللذين ظلما زوجه الطاهرة الزكية وقد قال في حقه رسول اللَّه: عليٌّ مع الحق، والحق مع علي يدور معه حيثما دار؟.
وقال عنه: إنه من ثاني الثقلين اللذين لم يفترقا حتى يردا عليه الحوض وحكم بأن من تمسك بهما لن يضل أبداً، ومن أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً؟!
3 ــــ إنّ عدم رضا سيدة النساء الصدّيقة فاطمة (عليها السَّلام) عن بيعة أبي بكر إمّا أن يكون بحقٍ أو باطل.
فإن كان الأول كان أبو بكر ظالماً، وإن كان الثاني وجب على أمير المؤمنين أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، وبعدم فعلهم يكونون مخلّين بالواجب، وكونهم لم يفعلوا دل ذلك على أنها كانت محقة، وأن أبا بكر وأتباعه ظالمون لها.
والقول بأن الشيخين اعترضا عليها فيدل على أنهما محقان دونها،هي دعوى باطلة، لأن السيدة الصدِّيقة الكبرى الشهيدة فاطمة عليها السلام مطهّرة بنص الكتاب دونهما، فالاعتراض عليها يكون رداً على كتاب اللَّه الدال على طهارتها وكونها بضعة الرسول وثمرة فؤاده ومهجة كبده وتفاحة الفردوس وسيدة النساء، كيف يردُّ أبو بكر قولها ويعتدي عليها بحجة أخذ البيعة له من زوجها وهو ما فتى‏ء بايع الإمام علياً يوم غدير خم في نفس العام الذي توفى فيه رسول اللَّه!!؟
وليس من العجب أنْ يجترئ الشيخان على بضعة النبيّ التي ربّاها رسول اللَّه، وهي من العترة الذين هم أحد الثقلين، فينسبان إليها مخالفة الواجب، وينعتانها بالباطل، فقد اجترآ على اللَّه تعالى بادعائهما الخلافة لهما وتغييرهما حلال اللَّه وانتهاك حرماته، واجتراؤهما على رسول اللَّه ونعت الثاني له بالهجر وهو على فراش الموت.
وبالجملة:
إنّ تخلّف أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) لم يكن مراعاةً لحق مولاتنا الزهراء، لأن البيعة لو كانت حقاً خاصاً لأبي بكر لم يكن للإمام‏ (عليه السَّلام) أن يهادن عليه محاباةً ولو للحظة واحدة، وإنما كان تخلّفه من أجل الاعتراض على القوم، وأنهم إدّعوا ما ليس لهم، لأنّ الخلافة أمرها منوط بالنص الإلهي، ولا مدخلية لآراء الناس فيها، وعلى تقدير كونها منوطة بآراء الأمة فلا يخلو الأمر من ثلاثة:
أولها: أن تكون الإمامة على الخلق من المناصب الشرعية التي يكون الكتاب والسُّنّة كافلين ببيان من له أهليتها وأحقيتها لأنهما قد اشتملا على بيان كل شي‏ء، فيلزم على هذا اجتماع كل من له أهلية استنباط الأحكام من المدارك المقررة ثم يتدارسونها ويستخرجون منها أحقية شخص معين للإمامة، فمتى اتفقوا كلهم على دلالة الكتاب والسُّنّة على إمامته انعقدت، ومتى لم يتفقوا لم تنعقد ويعيدون النظر مرة أخرى وأخرى إلى أن يحصل الاتفاق، ويلزم من هذا الوجه اعتبار قول من له أهلية الاستخراج من كتاب اللَّه وسنّة رسوله من الرجال والنساء وغيرهم، ويلزم منه أيضاً أنهم إذا لم يتفقوا لم يحصل انعقاد الإمامة، بل يجب إعادة النظر لأن نصب الإمام واجب على الخلق، ولا يتم إلاّ بالنظر، وما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب ولا يكون لكل واحد أن يعمل برأيه، وإن عمل لا يكون مؤآخذاً لأن ذلك في المسائل الظنية التي لا دليل قطعاً عليها.
ثانيها: أن تكون الإمامة على الخلق من المناصب الشرعية، لكن المقتضى لثبوت حقوقها على الخلق من الطاعة والانقياد هو مبايعة الخلق، فكل شخصٍ يثبت الحق على نفسه ببيعته بمجرد الرأي من غير رجوع إلى الكتاب والسنة، فإذا بايع الجميع انعقدت الإمامة شرعاً عموماً لأن كل شخص  بحسب هذه الدعوى  يحق له أن يبايع شخصاً على أن يكون حاكماً عليه، وهذا مع ظهور فساده يستلزم دخول الناس ومنهم النساء في ذلك، وكذا العوام المستضعفون، فلو تخلّف واحد حينئذٍ لم تثبت الإمامة عموماً.
وثالثها: أن تكون الإمامة من المناصب الدنيوية التي لا تعلق لها بالشرع بل هي منوطة برأي عرفاء الرجال كما يصنع كفّار الهند والإفرنج وكما هو سائد في زماننا هذا حيث يُرشَّح لرئاسة البلاد العارف بالسياسة، وعلى هذا لا يكون الشيخان خليفتَي رسول اللَّه لأن انتخابهما لم يكن منوطاً برأي عرفاء الرجال، لأن من انتخب أبا بكر هم ثلة ممن لا عهد لهم بالسياسة ولا معرفة عندهم بالكتاب والسُّنّة، وعلى فرض أن لديهم من التجربة السياسية والمعرفة بالكتاب والسنَّة ما يؤهلهم لئن يكونوا من أهل البصائر، لكن أين سلمان وأبو ذر والمقداد وجابر وعمّار؟ بل أين الإمام عليّ وأين العبّاس وابنه عبدفاللَّه؟! أليسوا هؤلاء من أهل البصائر والمعرفة بأصول السياسة والكتاب والسنّة؟.
وعلى هذا الأساس فالإمامة على مقتضى قول أهل السنة لا تخلو من هذه الأمور الثلاثة، ووجه الحصر فيها:
أن الإمامة إمّا أن تكون منصباً شرعياً أو لا، والأول إمّا أن يكون باستخراج أهل الحل والعقد، أو بأن يبايع كل شخص عن نفسه، وعلى كل هذه التقديرات يكون طلب أبي بكر وعمر وسائر من بايعهما الإمام علياً إلى البيعة ظلماً، فيثبت بذلك أن الظالم لا يستحق أن يكون الخليفة.
وأما الكبرى المنطقية حيث مفادها: أن كل ظالم ملعون، فلا غبار عليها إذ إنّ كل من نازع أمير المؤمنين علياً (عليه السَّلام) فهو كافر وملعون، والملعون لا يستحق الخلافة لقوله تعالى: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.
الرابع:
ومن الأدلة على بطلان إمامة أبي بكر وصاحبيه عمر وعثمان، كثرة المنكرات التي فعلوها في حياة النبيّ وبعد وفاته. ولا يمكننا في هذا البحث المقتضب أن نعدّد تلك المنكرات والمطاعن لكن ما لا يدرك كله لا يترك جُله، فمنها:
ما فعلوه بالنبيِّ وهو على فراش الموت حيث خالفوا أمره بتجهيز جيش أسامة والالتحاق به، ثم لغطهم عند النبيِّ عندما طلب منهم إحضار الدواة والكتف ليكتب لهم الوصية بالكتاب والعترة، ثم نعتهم له بالهجر والاكتفاء بكتاب اللَّه حسبما جاء في كتب القوم من أن عمر قال: إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب اللَّه.
ثم تركهم جنازة النبيّ واجتماعهم في السقيفة المعروفة، والاعتداء على كرامة أمير المؤمنين ببيته وضربهم لسيّدة نساء العالمين وكسرهم لضلعها وإسقاطهم لجنينها والاستهانة والازدراء بها وتكذيبها ومنعهم إرثها واغتصابهم لحقها من الخمس وفدك
. ولو لم يكن من المنكرات سوى اعتدائهم على حق الزهراء لكان كافياً بخروجهم من الدين والمروق عن شريعة سيّد المرسلين.

وللمزيد /راجعوا كتابنا "أبهى المداد في شرح مؤتمر بغداد"طبع مؤسسة الأعلمي /بيروت. 


  • المصدر : http://www.aletra.org/subject.php?id=14
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 03 / 01
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16