السلام عليكم سماحة العلّامة حفظكم الله وأدامكم وأطال عمركم الشريف،
سؤالنا، دام ظلكم الوارف، حول صحة الحديث الآتي: عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وآله إذ دخل علي بن آبي طالب عليه السلام فقربه النبي صلى الله عليه و آله فتعانقا حتى أنهما صارا شخصا واحداً فتفقدنا أمير المؤمنين عليه السلام فلم نجد له عيناً ولا أثراً فزدنا تعجباً فقلنا : يا رسول الله ما الذي جرى لإبن عمك ؟ و ما نراك إلا وحدك ! قال : فتبسم النبي صلى الله عليه و آله , و قال : يا قوم أما سمعتم مني أني أنا و علي من نور واحد , و لما تعانقنا اشتاق هو إلى المنزل الأول من نورنا فامتزج نوره بنوري حتى بقينا شخصاً واحداً كما ترون .. قال : فلما سمعنا ما قال النبي صلى الله عليه و آله رعبت قلوبنا و اصفرت وجوهنا و قد طالت غيبة أمير المؤمنين عليه السلام فقالوا يا رسول الله بحق من أرسلك بالحق إلا ما أخبرتنا كيف صار عليٌّ عليه السلام فاحضره إلينا حتى يزول الشك من قلوبنا فقال رسول الله صلى الله عليه واله : علي مني و أنا من علي فرأينا قد جلله العرق فظهر من جبهته مصباح من نور حتى ظننا انه نار قد عمت المشارق و المغارب فاشتد فزعنا حتى ظننا أن كلنا نحترق و أهل الأرض كلهم يحترقون من نور ذلك المصباح فلما رأى النبي صلى الله عليه و آله حالنا صرخ صرخة و قال : أين قيوم الأملاك ؟ أين مدبر الأفلاك ؟ أين مبدع الكائنات ؟ أين حقيقة الموجودات ؟ أين عالم الغيب و المكاشفات؟ أين الصراط المستقيم و بغضه عذاب أليم ؟ أين أسد الله ؟ أين الذي دمه دمي ؟ ولحمه لحمي ؟ و روحه روحي؟ أين الإمام الهمام؟ قال : فإذا بصوت علي عليه السلام.. ينادي لبيك لبيك يا سيد البشر ! فلما سمعنا صوته جعلنا ننظر إليه من أين يظهر وإذا به قد ظهر من جنب النبي الأيمن وهو يقول لبيك لبيك ... قال جابر لما غاب علي عليه السلام في النبي صلى الله عليه وآله و ظهر منه سألته كيف دخوله و خروجه منك يا رسول الله ؟ قال فقال يا جابر : إن غيبة علي عليه السلام كانت أمراً يعلمه الله وهو انه لما التصق صدره بصدري امتزج لحمه بلحمي و دمه بدمي ونوره بنوري كما كنا في موطننا الأول قبل هذه الهياكل البشرية حتى صرنا هناك كذلك شخصاً واحداً بإذن الله تعالى .
كتاب : صحيفة الابرار
باب : معجزات أمير المؤمنين عليه السلام
حديث رقم :85
*********
الموضوع العقائدي:(بيان كيفية امتزاج النور العلوي بالنور المحمدي...إتحاد النورين حتى صارا نوراً واحداُ..).
السلام عليكم ورحمته وبركاته
الإجابة على التساؤل المتقدم - الدائر حول كيفية الإمتزاج والإتحاد بين النبيّ والولي صلى الله عليهما - تتم بالوجوه الآتية:
(الوجه الأول): إمتزاج اللحم باللحم والدم بالدم والنور بالنور هو على نحو ذوبان كلّ واحدٍ منهما بالآخر فصارا قالباً واحداً أي فنى الواحد بالثاني أو صار الواحد منهما ظلاً للثاني؛ أو صار عليٌّ أمير المؤمنين عليه السلام غيباً في باطن نبوة النبيّ صلى الله عليه وآله فلا تدركه عيون الأغيار الغارقة في جلباب الماديات..فالنبوة ظل ظاهري والولاية نور باطني.. من هنا غابت واحتجبت الولاية في باطن النبوة؛ أو أن الإمامة والولاية إنبعثتا وتولدتا من رحم النبوة، فما للرسل والأنبياء من المهام والوظائف هي سارية بتمامها وكمالها في حقّ الإمام الاعظم والوليّ الأكبر مولانا عليّ صلى الله عليه وآله فتأملوا يرحمكم الله تعالى.
إن أمير المؤمنين عليّاً (صلوات الله وسلامه عليه) هو ظل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والعكس كذلك أي هما ظلان لبعضهما البعض، فالظل من الظل، لا فرق بين الظلين؛ ومعنى الظل هو ما يستند إليه المرء ويركن إليه ويعتمد عليه من هنا جاء في الخبر(أنا من رسول الله كالظل من الظل) وورد أيضاً( أنا من رسول الله كالشعاع من الضوء) .
وفي تعبير آخر( أنا من رسول الله كالضوء من الضوء والذراع من العضد) وأيضاً قال( أنا من أحمد كالصنو من الصنو). والصنو هو النظير والمثل وهي عبارة تُستخدم للتعبير عن التشابه والترابط الوثيق بين شخصين، وكأنما هما فرعان لنخلة واحدة تنمو من أصل واحد. معناها الحرفي يشير إلى "مثل النخلتين اللتين تنبتان من أصل واحد".
والصنو أيضاً معناه: أن تطلع نخلتان من عرق واحد كما ورد في النهاية؛ وعليه فيكون المعنى مقارباً لما ورد في النبوي المشهور " أنا وعلي من شجرة واحدة ". نهج البلاغة: الكتاب 45. فهما صنوانان وضوءان باهران من هنا جاء عن إمامنا الصادق عليه السلام معبراً عن إنبثاق النور من النور وهما نور واحد لا يتباينان ولا يختلفان..قال عليه السلام لمحمد بن حرب الهلالي: (.. أما علمت أن المصباح هو الذي يهتدى به في الظلمة، وانبعاث فرعه من أصله، وقد قال علي (عليه السلام): " أنا من أحمد كالضوء من الضوء "! أما علمت أن محمداً وعليّاً صلوات الله عليهما كانا نوراً بين يدي الله جل جلاله قبل خلق الخلق بألفي عام، وأن الملائكة لما رأت ذلك النور رأت له أصلا قد انشعب فيه شعاع لامع، فقالت: إلهنا وسيدنا، ما هذا النور؟ فأوحى الله عز وجل إليهم: هذا نور من نوري، أصله نبوة، وفرعه إمامة، أما النبوة فلمحمد عبدي ورسولي، وأما الإمامة فلعلي حجتي ووليي..) .
فالإمامة وإن كانت متفرعة من النبوة لوجود السنخية النورانية بين النبوة والإمامة إلا أن الإمامة أعظم من النبوة وإلا لما شرّف الله تعالى نبي الله إبراهيم الخليل بالإمامة بعد أن كان نبياً مرسلاً، فإمامة رسول الله اعظم من نبوته ورسالته.. فامتزاج النورين اي النبوة والإمامة يكشف عن أن الإمامة تنبع من باطن النبوة والرسالة وهي - أي الإمامة - مسانخة للنبوة والرسالة باعتبار ان منصب الإمامة هو من جهة الله تعالى ولكن الإمامة والولاية أشرف من النبوة والرسالة..والنبي والولي من نفس السنخية..من هنا كانت سيدة نساء العالمين الصدّيقة الكبرى فاطمة البتول صلى الله عليها وأهل بيتها نفس رسول الله ونفس أمير المؤمنين علي صلوات ربي عليهما وهي روحه وقلبه كما جاء في الاخبار واختلط لحمها ودمها بلحم ودم رسول الله وأمير المؤمنين علي عليهم السلام لذا قال أمير المؤمنين علي عليه السلام:
محمد النبي أخي وصنوي
وحمزة سيد الشهداء عمي
يطير مع الملائكة ابن أُمي
وبنت محمد سكني وعرسي
مسوط لحمها بدمي ولحمي.
( الوجه الثاني): إن الإمامة مقام ظاهري بينما الولاية مقام باطني لا يمكن للعقول ان تتصوره وتحتمله وإليه يشير أمير المؤمنين عليّ صلوات ربي عليه بقوله الشريف( ظاهري إمامة وباطني غيبٌ لا يُدرَك) فقد غابت الولاية عن الانظار فلا يراها إلا الانبياء والمخلصون من الاوتاد..فاتحدت ولاية أمير المؤمنين علي صلوات ربي عليه بباطن نبوة ورسالة وولاية رسول الله محمد صلى الله عليه وآله...فاختفى النور بالنور واضمحلا حتى صارا نوراً واحداُ كما خلقهما الله تعالى في اول الخليقة حيث كانا نوراً واحداً فقسمه الله إلى نورين هما: محمد وعليٌّ صلى الله عليهما وآلهما..فتأمل.
(الوجه الثالث):غاب أمير المؤمنين علي صلوات ربي عليه وآله في الحقيقة المحمدية العظمى لأنه اشتاق الى تلك الحقيقة من جهة؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وآله من جهة أخرى: أراد أن يكشف عن بعض الاسرار العظمى لصنوه أمير المؤمنين علي صلى الله عليهما وآلهما عندما صرخ لما رأى جابر وأمثاله فزغوا:( أين مدبر الافلاك اين مبدع الكائنات اين حقيقة الموجودات...؟) إنه مولانا الإمام الهمام آية الله الجبار أمير المؤمنين علي الذي قال( ليس ثمة آية أكبر مني).
(الوجه الرابع):الإمتزاج بين النبي والولي بالكيفية التي كشفت عنه الرواية الشريفة هو من الإعجاز الخارق لقوانين الطبيعة؛ وعندما تصل النوبة للإعجاز فهنا ترتجف العقول وتجمد الارواح وتسلّم النفوس ولا يمكننا الكشف عن الطبيعة والماهية التي صار فيها الولي نفس النبي عليهما السلام فلا يمكننا أن نحلل بعقولنا كيف تكون ماهية الإمتزاج وصيرورة الإثنين واحداً مع أنهما إثنان..نقول كما قال أمير المؤمنين علي فديته بروحي لتلميذه كميل النخعي لما طلب منه أن يعرّفه على الحقيقة؛ فعرفها له بعدة تعريفات عرفانية راقية..فلما أراد كميل المزيد أجابه الإمام الأعظم صلى الله عليه وآله( يا كميل إطفئ السراج فقد طلع الصبح) أي لا يمكنك يا كميل أن تدرك سر الحقيقة بتمامها فاعقل الجواب وقف متأدباً على باب حضرة الجلال والكبرياء...
والله يتولى الصالحين
والسلام عليكم والرحمة والبركات
عبدالإمام الحُجّة القائم المهدي صلى الله عليه وآله
محمّد جميل حمُّود العاملي
بيروت/ لتاريخ 29 ذي الحجة الحرام 1446 هجري قمري.
|