• الموقع : مركز العترة الطاهرة للدراسات والبحوث .
        • القسم الرئيسي : الفقه .
              • القسم الفرعي : إستفتاءات وأجوبة .
                    • الموضوع : بحثنا الفقهي الإستدلالي حول صحة نكاح الإنسي للجنيَّة .

بحثنا الفقهي الإستدلالي حول صحة نكاح الإنسي للجنيَّة

بحثنا الفقهي الإستدلالي حول صحة نكاح الإنسي للجنيَّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
 

  الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وأهل بيته الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة السرمدية على أعدائهم من الاولين والآخرين إلى قيام يوم الدين..وبعد.
  سألنا بعض المؤمنين عن صحة نكاح الإنسي للجنيَّة، ونحن أجبناهم بما استظهرناه من الأدلة من جواز نكاح الإنسي للجنيَّة ضمن شروط معينة، ولم يظهر لنا من العلماء الأعلام التطرق إلى المسألة بشكل علني وواضح عدا ما صدر عن العلامة الدربندي في أسرار الشهادة والعلَّامة السيّد محمد صادق الصدر رحمه الله تعالى في بعض كتبه، وقد استظهر الدربندي رحمه الله تعالى جواز مناطحة الجنّ، كما قد أطلق السيد محمد الصدر رحمه الله تعالى الحكم بالتعامل مع الجن ومنه النكاح، معتمداً على أصل الإباحة الشرعية من دون النظر إلى رواية أبي الربيع الشامي والروايات الأخرى الحاكية عن نكاح أولاد النبيّ آدم عليه السلام كما فعلنا نحن بمقتضى أدلة الجمع العرفي التي لا يشذ الفقيه عن التعامل بها عند تعارض الأخبار، لذا ارتأينا توضيح الحكم الشرعي حول صحة نكاح الجنيّة وتفصيل الكلام حوله ليكون المؤمن على دراية في مسألة لم يتناوله أعلام الإمامية قديماً وحديثاً بشكلٍ تفصيليٍّ وحاسمٍ، شأنها شأن الكثير من القضايا الفقهية والعقدية التي لم يتطرق إليها هؤلاء الأعلام أصلاً أو تطرقوا لبعضها مجملاً وبشكلٍ عابرٍ، وبه نكون ــ بفضل الله تعالى والحجج الطاهرين عليهم كما في غيرها من المسائل الفقهية والعقدية العويصة التي حررناها ــــ أول من أثار المسألة بين أعلام الإمامية من حيث الطرح والإستدلال وبيان ما يترتب عليه من أحكام،  فكان ــ ولا يزال ــ جوابنا التفصيليّ على سؤال بعض المؤمنين حول صحة نكاح الجنيَّة بالعنوان الأولي هو التالي:
     الظاهر جواز الزواج بين الجن والإنس على كراهة شديدة، ولا يحرم ذلك بالعنوان الاولي على الأقوى ولكن إذا أدّى الاتصال الجنسي بين الجن والإنس إلى مظنة الضرر ــ كالجنون والصرع والتلبيس ــ وعدم مراعاة أحكام الشريعة فلا ريب في حرمته تماماً كحرمة الاتصال الجنسي بين بشريين مع مظنة الضرر وعدم مراعاة الشرع الحنيف، فلو حصلت الرغبة في الاتصال بين الجنسين المختلفين ــ كمفروض السؤال ـــ فلا بدّ أنْ تتوفر فيه الشروط التي يجب توفرها في الزواج بين البشريين من كون العقد الدائم بين مؤمنَينِ (إنسي مؤمن مع جنية مؤمنة)، بالقيد اللفظي؛ فلا يجوز بعقد المعاطاة، ومعنى المعاطاة هي أنْ يقصدَ الإنسيُّ إيجادَ الزواجِ مع إبرازه بعملٍ معينٍ كالتقبيل أو غيره، بل لا بدّ من العقد اللفظي كأن يكون فيه إيجاب وقبول، فالإيجاب من الزوجة  في العقد الدائم هو أن تقول الجنية المؤمنة له:" زوجتك نفسي بمهرٍ قدره كذا " فيقول لها:" قبلت"، وهو ما يسمى بالقبول من طرف الزوج.
    والحاصل: إننا نشترط في صحة الزواج الدائم بين الإنسي والجنيَّة  أنْ يكون مقيَّداً بين المسلم والمسلمة ولا يجوز بين المسلم والكافرة والعكس كذلك، تماماً كالزواج بين الإنسي والإنسية حيث يشترط في صحة الزواج الدائم عندنا أن يكون الزوجين مسلمين مؤمنين لا أن يكون أحدهما مسلماً والآخر كافراً كما فصّلناه في رسالتنا العملية المسماة بــ(وسيلة المتقين في أحكام سيّد المرسلين محمد وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام)، هذا في العقد الدائم، وأمّا في العقد المنقطع فيجوز حصوله بين الإنسي المؤمن والجنية المسلمة المؤمنة وغير المسلمة كالكتابية من نساء الجن، ولا يجوز الزواج من الجنية المشركة ولا الناصبية المخالفة ولا الكتابية بالعقد الدائم ولا من ذات البعل ولا من المعتدة، ولا من المحرم منهم إنْ حصلت للبشري كالأخت والأم والبنت أي يحرم الجمع بين الأم وبنتها في النكاح وبين الأختين الجنيتين.
     ولا يجوز بالعقد الدائم الزيادة على أربع زوجات من بشريات أو غيرهن، كما لا يجوز الجمع بين الأختين، بشريتين كانتا أو غيرهما، ولا يجوز الزواج من الجنيَّة الزانية المشهورة، وهل يشترط الشهرة في الزنا بين أن تكون في الجن أو الإنس ؟ الظاهر إشتراط كونها مشهورة في الوسط الجنيّ لا الإنسي إلا إذا وصل الأمر بين الإنس إلى حدّ الشهرة بحيث تصبح الجنيّة المعينة مشهورة  في الوسط الإنسي فيحرم حينئذٍ على الأحوط وجوباً،كما لا يجوز للإنسي نكاح اللواط مع جني آخر تماماً كما هو حرام شرعاً مع الإنسي الآخر، فنكاح الجنية كنكاح الإنسية من حيث الشروط والقيود والإعتبارات الشرعية والعقلائية.
 ونحن نقتصر على نكاح الرجل الإنسي للجنية ولا نجيز نكاح الإنسية للجني على الأقوى اقتصاراً على موضع النص الدال على تزويج النبي آدم (عليه السَّلام) ابنه قابيل لجنيَّة.. وفي أخبار أُخرى إنّ آدم زوّج أولاد هبة الله من أربع جنيات؛ ومن هذه الأخبار  ما رواه المحدّث الكليني رحمه الله تعالى بأسناده إلى محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن صفوان بن يحيى عن خالد بن إسماعيل عن رجل من أصحابنا من أهل الجبل عن أبي جعفر عليه السلام قال: ذكرت المجوس وإنهم يقولون: نكاح كنكاح ولد آدم، وأنهم يحاجون بذلك، فقال: أما إنهم لا يحاجونكم به، لما أدرك هبة الله قال آدم: يا رب زوج هبة الله، فأهبط الله له حوراء فولدت أربعة غلمة، ثم رفعها الله. فلما أدرك ولد هبة الله قال: يا رب زوج ولد هبة الله، فأوحى الله إليه أن يخطب إلى رجل من الجن وكان مسلما أربع بنات له على ولد هبة الله، فزوجهن فما كان من جمال وحلم فمن قبل الحوراء والنبوة، وما كان من سفه أو حدة فمن الجن.
    وروى المحدّث المجلسي عن العياشي عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن آدم ولد له أربعة ذكور، فأهبط الله إليهم أربعة من الحور العين، فزوج كل واحد منهم واحدة فتوالدوا، ثم إن الله رفعهن، وزوّج هؤلاء الأربعة أربعة من الجن فصار النسل فيهم، فما كان من حلم فمن آدم، وما كان من جمال فمن قبل الحور العين، وما كان من قبح أو سوء خلق فمن الجن.
 وروى أيضاً عن  الصدوق في الفقيه: عن أبيه، عن الحميري، عن هارون بن مسلم، عن القاسم بن عروة، عن بريد، عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى أنزل على آدم حوراء من الجنة فزوجها أحد ابنيه، وتزوج الآخر ابنة الجان، فما كان في الناس من جمال كثير أو حسن خلق فهو من الحوراء، وما كان من سوء خلق فهو من ابنة الجان.

تفصيل المسألة
     البحث في جواز مناكحة الجن يتوقف على أصل وجود الجن تارةً، وعلى إمكان وقوع المناكحة تارة أخرى، وعلى صحة المناكحة شرعاً طوراً ثالثاً، فيتركز البحث حينئذٍ على ثلاثة موارد:
     المورد الأول: وجود الجن في عوالم الطبيعة.
     المورد الثاني: إمكان وقوع النكاح بين الجن والإنس.
المورد الثالث: صحة النكاح بين الجن والإنس من الناحية الشرعية.
 الإستدلال على المورد الأول:
     إختلف الناس في وجود الجن والشياطين، فمن الناس من ينكر الجن والشياطين كالبراهمة وجمع من الفلاسفة والمعتزلة والجهمية... وأكثر المسلمين والمليين القائلين بالنبوات يعتقدون بوجود الجن والشياطين ولا يعتدون بمن خالفهم ما ادم الشرع المبين قد صرّح بوضوح بوجود الجن، فمنكره خارج عن الدين، وثمة آيات كثيرة وأخبار متواترة تدل على وجود الجن وأنهم أجسام عاقلة ومكلفة بتكاليف كالإنس. وقد احتج المنكرون لوجود الجن بوجوه واهية جدّاً.
     والجان والشياطين أجسام هوائية أو نارية، وأجسامها لطيفة نفاذةٌ حيَّةٌ عاقلةٌ لذواتها قادرة على الأعمال الشاقة وهي قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، وأجسامها غير قابلة للتفرق والتمزق ولا تؤثر فيها الرياح ولا تمزقها، كما أنّ الأجسام الكثيفة لا تفرقها، وعلى هذا التقدير فإن الجان قادرٌ على النفوذ في بواطن الناس وعلى التصرف فيها، وإنها تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الأجل المعيَّن والوقت المعلوم... والدليل على كونها نارية هو ما جاء في القرآن الكريم معرِّفاً حقيقة الجن بقوله تعالى في سورة الرحمان/15: "وخلق الجان من مارج من نار". والآية 27 من سورة الحجر: "والجان خلقناه من قبل من نار السموم".
     ومعنى "مارج من نار" أي لهب من نار أي من لهب النار الذي لا دخان فيه، ومعنى مارج لغةً هو "المضطرب المتحرك أو الشيء المختلط".
     ومعنى "نار السموم" هو النار التي لها ريح حارة، وقيل هي نار لا دخان لها، والصواعق تكون منها. وقيل إنّ نار السموم هي النار الملتهبة.
     وللجن قدرة على النفوذ في الأجسام الصلبة وذلك لرقة أجسامهم ولطاقتها، ولأجل ذلك ــ أي رقة أجسامهم ــ لا يمكننا رؤيتهم في أغلب الأحيان حتى ولو كانوا بقربنا ولا حائل بيننا وبينهم بحيث يوسوسون إلينا، وعندما يراهم البشر يكون ذلك بسبب خارجي جعله الله تعالى فينا كأن يقوي الشعاع في أبصارنا، من هنا ذكر المطلعون قبلنا أنّ الرقة أحد الموانع من رؤية المرئيات بشرط ضعف البصر كالبعد واللطافة، ولهذا قالوا إنّه يجوز أنْ نراهم إذا قوّى الله تعالى شعاع أبصارنا، كما يجوز أنْ نراهم لو كشف الله تعالى أجسامهم، وعلى هذا الوجه يرى المعايِن الملائكة دون من يحضره من الناس ويرون أيضاً الأنبياء والأولياء ويرون الجن دون غيرهم...
     وقد أفصح القرآن الكريم عن حقيقة سر اللطافة والرقة في تحقق الرؤيا بقوله تعالى: "لقد كنت في غفلةٍ من هذا فكشفنا عنك غطاءم فبصرك اليوم حديد" [ق:22]؛ حيث إنَّ اعتياد الشر على الانغماس في المادة والكثافة يمنعهم عن الرؤية، فإذا زالت الكثافة وتبدلت إلى رقة ولطافة زال بعدها الحجاب والغطاء(1).
     وبالجملة؛ فإنّ للجن والشياطين قدرة على أنْ يُظهروا أنفسهم للإنس بحيث يراهم الإنس، من غير فرق في ذلك بين صورتهم الذاتية وخلقتهم الداخلية وبين الصور التي يتشكلون بها مع أنّ الأغلب بحسب الوقوع إنما هو الثاني كما لا يخفى على من تتبع الأخبار والآثار... وبهذا يتبين فساد ما ذهب إليه بعص العامة من عدم إمكان رؤية الجن والشياطين في الدنيا(2)، بل لا تكون الرؤية إلاّ يوم القيامة أو حال وجود الأنبياء... والأعجب من ذلك استدلالهم على عدم الوقوع بقوله تعالى: "إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم" [الأعراف:27].
     ولا يخفى بطلان هذا الاستدلال عند الفطن والمتتبع وذلك لأنّ الآية كاشفة عن وجود إبليس وأنه يجري في الإنسان كجريان الدم في العروق، فهو يتخفى في جسم الإنسان ليوسوس إليه فلا يراه الإنسان في أغلب الأحيان بسبب كثافة الروح والنفس، فإذا زالت الكثافة يمكنه الرؤية، وما أشرنا إليه هو مراد الآية من عدم رؤية الإنس للشياطين والجن، وليس ثمة شيءٌ آخر غير هذا.
     بالإضافة إلى ذلك فإنّ الآية: "إنّه يراكم..." لو سلّمنا إطلاقها في عدم الرؤية إلاّ أنّه مخصص في بعض الموارد كرفع الحجاب إمّا برياضةٍ وإمّا عند الاحتضار لقوله تعالى: "فكشفنا عنك غطاءك..".
 أمّا المورد الثاني:
     وهو إمكان وقوع النكاح بين الإنس والجن؛ حيث إنّ للجن حقيقة وجودية وأنهم ذوو عقول وأفهام فلا يمنع العقل من إمكانية اتصالهم الجنسي مع الإنس، إذ إنّ المسألة لا تدخل في دائرة المستحيلات العقلية حيث يُدّعى استحالة المواقعة، والإمكان والوقوع من أعظم الأدلة على عدم الاستحالة، فقد تضافرت القصص والروايات على رؤية الجن وسماع أصواتهم، ولو لم يكن إلاّ ما ورد في القرآن الكريم لكفى به دليلاً على إمكان وقوع المواقعة بين الإنس والجن.
 المورد الثالث: وهو صحة النكاح بين الإنس والجن:
     لقد وقع خلاف فقهي في صحة المناكحة والمزاوجة بين الإنس والجن على قولين، أظهرهما الجواز على كراهة شديدة عندي، وذلك للأمور الآتية:
     (الأمر الأول): أصل الإباحة حال الشك في عدم صحة المزاوجة مع عدم وجود نص ظاهر في  الحرمة، فحيث لم يرد نهيٌ تحريمي عن المناكحة فلا ريب في أصل حليته بمقتضى الأصل. 
     (الأمر الثاني): الأخبار الظاهرة في تزويج النبي آدم (عليه السَّلام) بعض أولاده من امرأة جنية، وما ورد ايضاً في تزويج أمير المؤمنين (عليه السَّلام) امرأة من جن نصيبين متشكلة بصورة أم كلثوم بفرعون هذه الأمة عمر بن الخطاب، وما ورد في قصة قوم لوط حيث علّمهم إبليس ذلك العمل الشنيع القبيح بعد تشكله بصورة غلام أمرد ووقوعه منكوحاً من قوم لوط.
     ويؤيد ذلك أيضاً ما ورد في الأخبار الكثيرة في شأن شرك الشيطان، فمن جملتها ما في الكافي: ج5 ص549 بإسناده عن عطية أخي أبي الغرام (العرام) قال: ذكرتُ للإمام أبي عبد الله (عليه السَّلام) المنكوح من الرجال، فقال: ليس يبلي الله بهذا البلاء أحداً وله فيه حاجة، إنّ في أدبارهم أرحاماً منكوسة وحياء أدبارهم كحياء المرأة قد شرك فيهم ابنٌ لإبليس يُقال له زوال فمن شلاك فيه من الرجال كان منكوحاً ومن شرك فيه من النساء كانت من الموارد...
     وفي خبر آخر: إنّ الشيطان ليجيء حتى يقعد من المرأة كما يقعد الرجل منها، ويُحدث كما يُحدث، وينكح كما ينكح.
     وفي خبر أبي بصير في فروع الكافي ج5ص 502 ح2 عن مولانا الإمام المعظَّم الصادق عليه السلام قال:" إنّ الشيطان يجيء فيقعد كما يقعد الرجل، وينزل كما يُنزل الرجل، قلت: بأيِّ شيءٍ يعرف ذلك ؟ قال عليه السلام: بحبنا وبغضنا، فمن أحبنا كان نطفةَ العبد، ومن أبغضنا كان نطفة الشيطان".
     فهذه الأخبار ظاهرة في إمكانية المواقعة بين الإنس والجن، وفي مقابلها أخبار ظاهرة في الحرمة لتعليلها بالجنون والخبل لكلّ مَن جامع في أول الشهر ونصفه، ومقتضى الجمع بين هذه الأخبار المتعارضة هو القول بالكراهة الشديدة، وقد تصل إلى درجة الحرمة في حال تيقن الضرر بسبب المواقعة مع الجنية...
     وثمة جمعٌ فقهيٌّ آخر للحكم بالكراهة هو الآتي: إنّ كلّ ما دلّ على كراهة مناكحة الأكراد لأنهم طائفة من الجن يدل بالالتزام أو التضمن بكراهة نكاح الجن، فقد جاء في أخبار مستفيضة كراهة نكاح الأكراد بناء على أن (لا) الواردة في حديث أبي الربيع الشامي الناهي عن مناكحة الأكراد كقوله عليه السلام(ولا تنكحوا من الأكراد احداً فإنهم جنس من الجن كشف عنهم الغطاء) محمولة على الكراهة والنهيّ التنزيهي وإلاّ فالحرمة هي المتعينة في البين، وحيث لم يذهب أحد إلى مناكحة الأكراد فلا يمكننا الحكم بالحرمة بل المتعيَّن حينئذٍ هو كراهة المناكحة لهم بالإجتناب عنهم تنزيهاً عن التلوث بسوء أخلاقهم، فمناحكة الأكراد مكروهة لأجل ذلك أو لأجل أنهم من الجن وبالتالي تكون مناكحة الجن مكروهة تبعاً لكراهة مناكحة الأكراد، ونعني بكراهة مناكحة الأكراد المؤمنين منهم لا غير المؤمنين فإنه محرَّم عندي مناكحة المخالفة سوآء أكانت كردية أم غير كردية،فالمناط في الحرمة لدينا هو كون المرأة مخالفة، والمخالفة ناصبية إلا المستضعفة وهي التي لا تعرف شيئاً من وجوه الخلاف المذهبي ولا تقلِّد أحداً من أئمة المذاهب المبتدعة، وقد فصّلنا ذلك في كتابنا الجليل الموسوم بــ( معنى الناصبي وحرمة التزاوج معه) فليراجع .
     (الأمر الثالث): عدم وجود شهرة فضلاً عن إجماع على حرمة المزاوجة بين الإنس والجن، نعم حرمة المزاوجة مشهورة عند المخالفين، وبعضهم أفتى بالجواز كالحسن البصري، وكره ذلك جماعة منهم، وقد توقف صاحب البحار من أعلام الإمامية في أصل الزواج لأجل النظر في حكم طلاقها ونفقتها وعدتها وكسوتها والجمع بينها وبين أربع نسوة... ولم يفصح عن وجه توقفه..فليراجع البحار ج 60 ص312.
     أقول: لا معنى لتوقفه في الأمور المذكورة ما دام يعتقد بصحة النكاح الواقع بين الإنس والجن؛ لأنّ النكاح الصحيح لا ينفك عنه خواصه ولوازمه وأحكامه ولواصقه الشرعية، فاعتقاده بصحة النكاح المزبور مع التفكيك بين أصل النكاح ولوازمه وخواصه وتوابعه ولواصقه مما لا وجه له، فإذا ثبت أصل النكاح ثبتت لوازمه المترتبة عليه وكذا لواصقه وتوابعه...
     ومسألة تنظره وتوقفه بالأمور المذكورة محلولة عندنا من حيث شمولها للعمومات والإطلاقات الواردة في الكتاب والسنة فمثلاً يكون الطلاق بين الإنس والجنية طبقاً لما ورد في الشرع الحنيف أي مطابقة للشروط والضوابط الموجودة عند الإنس بمعنى أنّ الطلاق بيد الزوج طبقاً لأحكامه المذكورة في الفقه، وإذا كان للجن أساليب أخرى في الطلاق لم يجز اتباعها والعمل عليها على الأقوى، كما يمكن جعل الشاهدين في الطلاق من الجن مع إحراز عدالتهم وإيمانهم، أو جعل أحدهما من الجن والآخر من الإنس، وإنْ كان الأحوط كون الشاهدين من الإنس.
     وأمّا بالنسبة لسائر الأمور التي ينظر فيها المحدث المجلسي فلا بدّ من مراعاة الأحكام الشرعية فيها، ولا يجوز اتباع العادات والسنن الجارية عند الجن؛ لأنّ الجن يأخذون الأحكام الشرعية من الإنس، وهنا مسائل:
     المسألة الأولى: وتتعلق بالمهر، فلا يجوز موافقة الجنية في أساليب الزواج غير المعهودة عند الإنس، أو إعطاء مهر غير مشروع عند الإنس، بل لا بدّ أنْ يكون المهر موافقاً لما عند الإنس، ويجوز أنْ يكون المهر مما يتعارفون عليه في الكمية والنوعية ما لم يكن ممنوعاً شرعاً، فإذا حصل الرضا بشيء إنسي غير ممنوع شرعاً كان جائزاً بلا إشكال وإلاّ فلا...
     المسألة الثانية: الظهار والإيلاء مشمولان لأحكامهما في أيِّ زمانٍ ومكانٍ وقعا، سواء وقعا من إنسي أم من جني.
     المسألة الثالثة: أولياء العقد وأحكام القسم والشقاق والنشوز وواجبات  الزوجين وحقوقهما هو نفسه المشروع في الإسلام سواء صدر ذلك من إنسي أو جني.
     المسألة الرابعة: النفقة على الجنية تماماً كالنفقة على الإنسية إلاّ إذا كانت النفقة عند الجن مختلفة بنوعيتها فيجوز العمل بها والبناء عليها ما دامت موافقة للضوابط الشرعية... وأمّا كسوة الجنية فربما تحتاج الجنية إلى كسوة بحسب الطبيعة الخلقية لها فتسقط حينئذٍ من الزوج الإنسي...
     وأمّا حكم تعدد الزوجات الجنيات فلا تجوز الزيادة على أربع زوجات جنيات تماماً كما هو الحال في حرمة الزواج بأكثر من أربع زوجات إنسيات أو جنيات، كما لا يجوز الجمع بين الأختين الجنيتين تماماً كحرمة الجمع بين الأختين الإنسيتين.
     تنبيه هام: يجب أن لا يغفل المؤمن الإنسي أنّ تكاليف الجن وأحكامهم الدينية لا تختلف عن تكاليفنا وأحكامنا، كما يجب أنْ لا يغفل المؤمن الإنسي أنّ الجن كالبشر، فمنهم المؤمنون ومنهم الكافرون، والمؤمنون صنفان: متدينون وفسقة، وأفعالهم الصادرة منهم على نحو الاختيار، فربما يختارون الطاعة، وربما يختارون المعصية... لذا فإنّ بعض نسائهم يتعاطين الزنا والسحاق بالنساء البشريات أو الجنيات كما يتعاطى رجالهم اللواط والزنا بالإنس أو الجن، فلربما تأتي الجنية إلى الإنسية فتراودها عن نفسها أو يأتي الرجل الجني فيراود المرأة الإنسية عن نفسها فيرتكب معها الفاحشة، وهكذا بالنسبة إلى المرأة الجنية فلربما تأتي إلى الرجل البشري فتراوه عن نفسه بالفاحشة، ولربما تأتي إلى المرأة البشرية فتتعاطى معها السحاق وبقية المحرمات...
     فليحذر المؤمنون مواضع انتهاك المحرمات والشبهات، وليكونوا على حذر مما يطرق منازلهم وأجسامهم في طوارق الحدثان، وليتمسكوا بحبل الله المتين وصراطه المستقيم الإمام المعظَّم الحجة بن الحسن (عليهما السَّلام) فإنّه أمان من مسّ الجن والشياطين (صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، ولعن الله أعداءهم إلى قيام يوم الدين).
     والخلاصة: إنّ نكاح الجن تماماً كنكاح الأكراد، فإنْ حملنا الروايات الناهية عن مناكحة الأكراد على الحرمة وثبتت دلالتها على الحرمة... كان نكاحُ الجنّ حراماً وإلاّ فنحمل النهي فيها على المكروه، فيكون نكاحهم مكروهاً... والاستقرار على الكراهة هو المتعين؛ وذلك لذهاب عامة الأعلام إلى كراهة المواقعة في الأوقات الثلاثة من كل شهر (أوله، أوسطه، وآخره لأن الجن يغشون نساء بني آدم في هذه الأوقات) فقد جاء في خبر مسمع أبي سيار عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال:" قال: رسول الله صلى الله عليه وآله: أكره لأمتي أن يغشى الرجل أهله في النصف من الشهر أو في غرة الهلال، فإ، الشياطين والجن تغشى بني آدم فيجننون ويخبلون، أما رأيتم المصاب يصرع في النصف من الشهر وعند غرة الهلال" وغيره من الأخبار الدالة على أن الجن يكثرون نكاح نسائهم في أول الشهر وأوسطه وآخره وأنهم ينتشرون في البيوت في هذه الأوقات فيرون الإنسي ينكح زوجته فيشاركونه في النكاح في حال لم يسمِّ ولم يتعوّذ بالله تعالى من الشياطين، ومشاركتهم للإنس في النكاح يؤدي إلى الصرع في المولود باعتبار كونه متولداً من الإنس والجن معاً أو لأن الجن سكنوا دماغه عندما باشروا بالنكاح مع أبيه حال مجامعة زوجته في هذه الأزمنة من كلِّ شهر، وهو عمل مكروه تسالم على كراهته الأصحاب ولم نجد من أفتى بحرمة النكاح في هذه الأزمنة، ونحن لا نخالفهم في ذلك طبقاً لما ورد عن مولانا الإمام الصادق (عليه السَّلام): "خذ بما اشتهر بين أصحابك"، والحكم بالكراهة هو المشهور بين أعلام الطائفة قديماً وحديثاً، والله تعالى هو العالم.
    هذا ما أحببنا توضيحه حول مناكحة الإنسي للجنيَّة، وننصح المؤمنين بألا يلجوا في هذا العالم المحفوف بالمخاطر والهلكة وليتوجهوا إلى السمو الروحي مع الأولياء من آل محمد عليهم السلام فتحفهم الملائكة وتتنسم عليهم بأريج رائحتها الطيبة وإيحاءاتها المباركة بأمرِ الحجة القائم أرواحنا فداه ولأجل هذا فليتنافس المتنافسون،قال تعالىوَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ العنكبوت69 وقال عزَّ شأنه وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ التوبة105.
   والإنسية خير من الجنيّة فلماذا يترك المؤمن الأفضل ويميل إلى الأدنى؟ ومن يفعل ذلك يكون قد هبط من المحل الأرفع إلى المحل الأدنى فينطبق عليه قول الله تعالى في حقّ بني إسرائيلوَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ البقرة61
   نسأل الله تعالى العافية في الدين والدنيا وأن يختم لنا بخير وعافية وتقوى إنه خير مجيب وهو حسبنا ونعم الوكيل وسلام على سادة المرسلين محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين عليهم السلام لا سيّما بقية الله في العالمين الحجة القائم من آل طه وياسين..اللهم عجّل فرجه وسهّل مخرجه واجعلنا من أوليائه وخيرة أنصارة والمستشهدين بين يديه، والسلام عليكم ورحمته وبركاته.

حررها العبد الفقير إلى رحمة ربّه وعفو وشفاعة أئمته الطاهرين عليهم السلام
الشيخ محمد جميل حمود العاملي ــ بيروت بتاريخ 24 ربيع الأول 1434هــ.

 


  • المصدر : http://www.aletra.org/subject.php?id=699
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 02 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28