• الصفحة الرئيسية

ترجمة آية الله العاملي :

المركز :

بحوث فقهيّة وعقائديّة/ اردو :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • مجلّة لسان الصدق الباكستانيّة (3)
  • بحث فقهي عن الشهادة الثالثة (1)

محاضرات آية الله العاملي :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • سيرة الإمام الحجّة (عليه السلام) (121)
  • مظلوميّة الصدِّيقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام) (20)
  • شبهات وردود حول فقه السيرة الحسينية (11)
  • من هم أهل الثغور؟ (1)
  • محاضرات متفرقة (14)
  • شبهات وردود حول ظلامات سيّدتنا فاطمة عليها السلام (2)
  • الشعائر الحسينية - شبهات وردود (محرم1435هـ/2014م) (9)
  • زيارة أربعين سيّد الشهداء (عليه السلام) (2)
  • البحث القصصي في السيرة المهدوية (22)
  • سيرة الإمام زين العابدين (عليه السلام) (6)

أدعية وزيارات ونعي :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • أدعية (14)
  • زيارات (9)
  • نعي، لطميّات (4)

العقائد والتاريخ :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • شبهات وردود (458)
  • عقائدنا في الزيارات (2)

الفقه :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • إستفتاءات وأجوبة (1173)
  • أرسل سؤالك

علم الرجال :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • مواضيع رجاليّة (102)

مواضيع مشتركة ومتفرقة :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • مراسلات زوّار الموقع للمركز (4)
  • كلمة - رأي - منفعة (20)
  • نصائح (5)
  • فلسفة ومنطق (4)
  • رسائل تحقيقيّة (3)
  • مواضيع أخلاقيّة (3)
  • فقهي عقائدي (35)
  • فقهي أصولي (11)
  • فقهي تاريخي (6)
  • شعائري / فقهي شعائري (26)
  • مواضيع متفرقة (22)
  • تفسيري (15)

مؤلفات آية الله العاملي :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • مؤلفات عقائديّة (15)
  • مؤلفات فقهيّة (13)

بيانات :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • بيانات وإعلانات (35)

المؤلفات والكتب :

 
 
 

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية لهذا القسم
  • أرشيف مواضيع هذا القسم
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إتصل بنا

 
 • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم وأهلك أعداءهم • 
  • القسم الرئيسي : العقائد والتاريخ .

        • القسم الفرعي : شبهات وردود .

              • الموضوع : إثبات خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام .

إثبات خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

الموضوع:كيف يمكننا إثبات خلافة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)؟


سؤال:
 سماحة آية الله الناصر لأئمة الهدى عليهم السلام...السلام عليكم ورحمته وبركاته،سؤالنا لكم هو : كيف يمكن للمؤمن الشيعي أن يثبت للمخالف خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام لو طُلِبَ منه ذلك؟ إفتونا مأجورين  ودمتم ذخراً للتشيع في عصرٍ شحّ ناصره.


الجواب:


بسم الله الرَّحمان الرَّحيم


والحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيِّد المرسلين محمَّد وآله الطاهرين المطهرين،واللعنة الدائمة والسرمدية على أعدائهم من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين.
السلام عليكم ورحمته وبركاته..وبعد.
 إنَّ وجوب تعيين الخليفة عقلاً وشرعاً بعد رحيل رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) من ضروريات الدين،فالتغاضي عن ذلك يؤدي إلى إهمال ضرورة عظمى بل هي أهم ضرورة في شريعة سيِّد المرسلين رسول الله محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) كما سوف نبيِّنه ونوضحه عمَّا قليلٍ... وقبل أن نستدل على ضرورة تعيين الخليفة، علينا أنْ نوضح نقطتين مهمتين:
النقطة الأولى: في بيان الحكمة من وجود الإمام أو الخليفة.
تقريرها:
إن الأدلة التي أوجبت ضرورة بعثة الأنبياء والمرسلين هي بعينها توجب ضرورة وجود الإمام وتنصيبه بعد النبي، لأن الموضوعَين يشتركان في جانب مهم من المناهج، فقاعدة اللطف  مثلاً  التي من خلالها أثبت المسلمون الشيعة الإمامية «أيدهم اللَّه عزّ وجل» ضرورة إرسال الأنبياء من حيث إنّ اللَّه تعالى بمقتضى رأفته بالعباد ولطفه بهم، يجب عقلاً ـ بعد أنْ فرض عليهم أحكاماً وتكاليف ـ أن يوجد لهم مَنْ يبعّدهم عن المعصية ويقرّبهم إلى الطاعة، فإيجاده للأنبياء (عليهم السَّلام) محصّل لغرضه، وهو طاعتهم له وانقيادهم له، ولو لم يوجده لنقَضَ غرضَهُ، إذ كيف يأمرهم بطاعته ثم لا يحقّق لهم الفرص التي تمكّنهم من العبادة والطاعة.
ووجوب اللطف لا يختص بالأنبياء والمرسلين، بل يشمل الأوصياءَ والأولياءَ المنصوبين من قِبل اللَّه جلّ وعلا، لأن مهام هؤلاء كمهام اولئك بمناطٍ واحدٍ لا يختلفون عن بعضهم البعض إلاّ في تلقي الوحي التشريعي، وبحسب قاعدة اللطف وجب كون الإمام أو الخليفة معصوماً، لأن غير المعصوم لا يؤمن عليه من الانحراف أو الزيادة والنقصان في الشريعة فاقتضت حكمته المتعالية أن ينصّب حججاً بعد الرسول لكي يوصلوا النفوس إلى الكمال، ويبلّغوا الأحكام المشرّعة التي لم تُبلّغ للناس لعدم وفرة الظروف الموضوعية لبيانها وتبليغها، ويربّوا الأشخاص الذين لم يحظوا برؤية النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والاستفادة منه، فيقودونهم نحو طريق الهداية، وليس من المعقول أن يهمل اللَّه الأمة ويتركها بلا قائد أو راعٍ لشؤونها، في حين أن جميع الناس متساوون من حيث الحاجة إلى مَنْ يربّيهم ويعلّمهم، وجميعهم متكافئون من حيث شمولهم لقاعدة اللطف الإلهي.
فمن اللازم  إذن  أنْ يبعث اللَّه عزّ اسمه مَنْ يوجّه النفوس إلى الكمال، وهو  أي المربّي أو القائد  مَنْ يوضّح معالم الشريعة المقدّسة ببيانه، ويدفع شبهات الملحدين والمشككين، ويفسّر ويبيّن معارف الدين وأسراره للنفوس المستعدة، ويصدّ أعداء الدين، ويقوّم الاعوجاج بيده ولسانه، ويرفع النقائص ويملأ الفراغ، ولمّا كانت هنالك فاصلة زمنية بين نبيين، ولا وجود لشريعة وقانون بعد خاتم النبيين، فسوف يكون وجود الإمام بين الشرائع وبعد وفاة النبيّ الأعظم لازماً وضرورياً، بوصفه العلة المبقية لأساس الغرض، ولمّا أخذ اللَّه تعالى على نفسه أن يمنَّ على عباده بلطفه الخفي، ويرعاهم رعايةً دقيقة، ويهديهم ويحسن بهم، ولا يريد إلاّ خيرهم وسعادتهم، لذا عليه أن لا يترك دين نبيه ناقصاً بارتحاله، وإنما يواصل رعايته للدين من خلال تعيين الإمام الذي يستطيع هو فقط أنْ يحمل هذه المهمة الثقيلة وهو الأنموذج الأكمل، والمثل الأعلى لوجود النبيّ في كافة الخصوصيات، وهو الذي يقود الناس نحو الكمال، من هذا المنطلق كان تعيين الوصي فرضاً على النبيّ، لذلك نصّب الإمام عليَّاً (عليه السَّلام) بأمر من اللَّه تعالى وصيّاً على الأمة.
وهذا ما يطلق عليه بالمكملّية أي أن الإمام‏ (عليه السَّلام) مكمّل للهدف الذي جاء من أجله النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
ومضافاً إلى عنصر اللطف وأهميته في مسألة بعث الأنبياء والأوصياء (عليهم السَّلام) هناك عناصر أخرى مهمة تدخل في تركيبة الشخصية الرسالية للإمام هي كما يلي:
العنصر الأول: قيادة الأمة سياسياً واجتماعياً.
اتفق العقلاء على أن كل جماعة لا يقودها نظام اجتماعي يقف على رأسه قائد قادر، مدبّر حكيم، لا تكون قادرة على إدامة حياتها، لهذا نجد العقلاء منذ القدم حتى الآن يختارون لأنفسهم زعيماً وقائداً، كي تنتظم أحوالهم، وتستقر أوضاعهم، وإلا انتشرت الفوضى، وعمّ الفساد، وكثر الهرج، وسفكت الدماء نتيجة عدم وجود رئيس أو قائد يتولى الأمور، من هنا يتعيّن إيجاد خليفة بعد وفاة النبيّ دفعاً للمحاذير المتقدمة، لكون الخليفة المعصوم أو القائد المعصوم هو الوحيد الذي يمكنه أن يحمي أصالة الدين، ويحول دون أي اعوجاج وانحراف وفساد، أمّا غير المعصوم فكغيره تؤثر عليه العوامل النفسية والخارجية، وتتلاعب به الأهواء والشهوات، ولا يسلم من هذا إلاّ النادر، وهذا النادر لا يمكنه أنْ يأخذ بيد المكلفين إلى واقع الدين، لأن وظيفة الخليفة ليست منحصرة ببيان الأحكام التشريعية فحسب، وإنما مهمته أوسع من ذلك بحيث تطال جميع مناحي الحياة والدين، فبيان الحكم الشرعي هو أثر من آثار وظائفه المقرّرة من عنده تعالى.
فالإنسان العادي المعرَّض للخطأ غير قادر على حمل الرسالة العظيمة التي حملها الأنبياء والمرسلون، بدليل ما نراه بأم أعيننا من انحراف قادة العالم عن جادة الصواب، ولا أحد بقادر على أن يقوّم اعوجاجهم نظراً لما يتصورون في أنفسهم من أنهم قادة يحرَّم الاعتراض عليهم والوقوف بوجههم.
 العنصر الثاني: ضرورة إتمام الحجة.
إنّ وجود الإمام لا يقتصر على إرشاد الناس إلى واقع التشريع، وإنارة القلوب المستعدة للهداية والسير في طريق التكامل، بل يعتبر إتماماً للحجة على الذين ينحرفون عمداً عن الطريق السويّ، وذلك كي لا يكون العقاب النازل بهم بدون سبب، ولكي لا يعترض أحد منهم أنهم لو أخذ بأيديهم مرشد إلهي ليقودهم إلى طريق الرشاد، لما ساروا في طريق الانحراف، أي أن وجود الإمام يقطع الطريق على كل عذر وحجة، بواسطة بيان الأدلة الكافية والتوعية اللازمة لغير الواعين، وتطمين الواعين وتقوية إرادتهم.
 العنصر الثالث: الإمام باب الفيض الإلهي.
إنّ القيادة في الإسلام تماماً كالرأس من الجسد وكالقلب من سائر الأعضاء، فالقلب إذ ينبض يرسل الدم إلى جميع العروق، ويغذّي جميع خلايا الجسد، كذا الإمام  من حيث اعتباره إنساناً كاملاً يكون سبب نزول الفيض الإلهي على الأفراد، كل فرد ينهل منه بحسب سيره ومقدار ارتباطه بالنبيّ أو الإمام، فمثلما كان القلب ضرورياً لحياة الإنسان، كذلك كان وجود واسطة نزول الفيض الإلهي ضرورياً في جسد عالم البشرية.
النقطة الثانية: في بيان المواصفات المعتبرة في الخليفة.
اعلم أن الإمامة كالنبوة من المناصب العالية والمقامات الرفيعة لكونها سلطنة إلهية لا ينالها إلاّ من كانت جميع قواه الشهوية والغضبية مقهورة له لغلبة عقله، ولكونها خلافة عن النبوة تقوم مقامها، لزم كون الإمام أيضاً متصفاً بالصفات المعتبرة في النبيّ عدا الوحي التشريعي، بل ينبغي الالتفات إلى أن مقام الإمامة أرفع حتى من مقام النُّبوة والرسالة، فهي من أعظم المناصب الإلهية، والمراد من الإمامة هنا ليس الخلافة أو الوصاية إذ كيف تكون أعظم من النبوة والرسالة وهي فرع الرسالة، وإنما يراد منها الإمامة المطلقة التي يعبّر عنها بالولاية المطلقة، وهي التي عبّرتْ عنها النصوص أنها أفضل الأعمال والعبادات، منها:
(1) ما ورد عن أبي حمزة، عن مولانا أبي جعفر (عليه السَّلام) قال
بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشي‏ء كما نودي بالولاية.
(2) وما ورد عن فضيل بن يسار، عن مولانا أبي جعفر (عليه السَّلام) قال
بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشي‏ء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه  يعني الولاية .
(3) وعن العرزمي عن أبيه عن مولانا الإمام الصادق‏ (عليه السَّلام) قال
أثافي  الإسلام ثلاثة:
الصلاة والزكاة والولاية، لا تصح واحدة منهنّ إلا بصاحبتيها.
(4) وعن زرارة عن مولانا أبي جعفر (عليه السَّلام) قال
بُني الإسلام على خمسة أشياء:
على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية، قال زرارة: فقلت: وأي شي‏ء من ذلك أفضل؟ فقال الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهنّ، قلت: ثم الذي يلي ذلك في الفضل؟ فقال الصلاة، إن رسول اللَّه قال عمود دينكم الصلاة، قال قلت: ثم الذي يليها في الفضل؟ قال الزكاة لأنه قرنها بها وبدأ بالصلاة قبلها، وقال رسول اللَّه: الزكاة تذهب الذنوب، قلت: والذي يليها في الفضل؟ قال الحج، قال اللَّه عزّ وجل:وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ.. ثم قال زرارة: قلت فماذا يتبعه؟ قال الصوم.
ثم قال ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمان، الطاعة للإمام بعد معرفته، إن اللَّه عزّ وجل يقول:مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً.
أما لو أن رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ولم يعرف ولاية وليّ اللَّه فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على اللَّه عزّ وجلَّ حق في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان، ثم قال اولئك المحسن منهم يدخله اللَّه الجنّة بفضل رحمته.
وعن عبد الحميد بن أبي العلاء الأزدي قال
سمعت أبا عبدفاللَّه‏ (عليه السَّلام) يقول: إن اللَّه عزّ وجلّ فرض على خلقه خمساً، فرخّص في أربع ولم يرخّص في واحدة.
ولا يتوهم أحدٌ أن مقام الأئمة الاثني عشر (عليهم السَّلام) فوق مقام نبينا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) حاشا وكلا، بل النبيُّ الأعظم‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) مضافاً إلى تسنّمه مقام النبوة والرسالة، كان إماماً أيضاً نصاً لقوله تعالىالنَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ.
ولقوله‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يوم غدير خم: «ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى، قال من كنت مولاه فعليٌّ مولاه» فالآية والحديث ظاهران في إمامته المطلقة عليه وآله التحية والسلام.
وبعبارة أخرى: إنّ لرسول اللَّه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ثلاثة مناصب إلهية:
النبوة، والرسالة، والإمامة المطلقة.
فأئمة آل البيت الإثني عشر (عليهم السَّلام) كانوا أصحاب منصب الإمامة وحده من قبل اللَّه تعالى دون النبوة والرسالة التشريعية.
ويشهد لهذا التفصيل ما جرى لإبراهيم خليل الرحمان، حيث نال عهد الإمامة بعد أن كان نبياً مرسلاً لقوله تعالى:
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قال وَمِن ذُرِّيَّتِي قال لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.
وإبراهيم خليل الرحمان‏ (عليه السَّلام)، بعد أن طوى مرحلة النبوة والرسالة، واجتاز بنجاح كل ما امتحنه اللَّه تعالى به، ومنها ذبح ابنه اسماعيل الذي رُزق به النبيُّ إبراهيم بعد أن كان نبياً مرسلاً، فارتقى ابراهيم‏ (عليه السَّلام) إلى المرحلة الرفيعة، مرحلة الإمامة الظاهرية والباطنية والمادية والمعنوية في قيادة الأمة.
وادّعى مشهور مفسري العامة، بل كاد يكون إجماعاً، أن المراد بالإمامة في الآية هي النبوة، وهو في غاية السقوط، لأنه عزّ وجل إنما جعله إماماً بعدما كان نبياً ورسولاً، بشهادة أنه طلب هذا المقام لذريته، وإنما صار ذا ذريّة بعدما كبر وهرم، قال تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل:الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ.
ويؤيده ما ورد في (الكافي) بسنده عن زيد الشحّام قال سمعت أبا عبدفاللَّه‏ (عليه السَّلام) يقول: إن اللَّه تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً، وإنّ اللَّه اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، وإنّ اللَّه اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، وإنّ اللَّه اتخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً، فلمّا جمع له الأشياء قال قال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قال فمن عظمها في عين إبراهيم قال وَمِن ذُرِّيَّتِي قال لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ قال لا يكون السفيه إمام التقي.
وما ثبت لإبراهيم الخليل‏ (عليه السَّلام) ثبت بطريق أولى لرسول اللَّه محمّد المصطفى‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، حيث كان له مضافاً إلى مقام النبوة والرسالة، مقام القيادة والإمامة المطلقة على الخلق أجمعين، وقد بلغ هذه المرحلة عددٌ من الأنبياء كموسى وعيسى وداود وسليمان‏ (عليهم السَّلام).
والشروط التي يجب أن يتحلّى بها الإمام، لا بدّ أن تتناسب مع الواجبات والمسؤوليات الملقاة على عاتقه للقيام بها، وكلما كان المنصب أرفع ومسؤولياته أصعب، كانت الشروط والصفات اللازم توفّرها في المنتخَب لذلك المقام أهم وأثقل، فمثلاً يشترط الإسلام فيمن يتسنّم منصب القضاء، وحتى الشاهد وإمام الجماعة لا بدّ أن يكون عادلاً، فإذا كان من يريد أن يدلي بشهادة ما، أو أن يقرأ الحمد والسورة يجب أن يكون عادلاً، فما بالك بالشروط اللازمة لبلوغ مقام الإمامة الخطير الرفيع؟!
والإمام يجب أن يتوفر فيه شرطان:
 الأول: العلم ويتفرّع منه الفضائل والكمالات النفسانية القابلة للإظهار.
 الثاني: العصمة المطلقة عن الخطأ والإثم والجهل.
 أما شرط العلم؛ فلأن الإمام كالنبيّ هو الملجأ العلمي للناس، فلا بدّ أنْ يكون عارفاً بجميع أصول الدين وفروعه، وبظاهر القرآن وباطنه، وبسنّة النبيّ، وبكل شي‏ء له علاقة مباشرة بالإسلام أو غير مباشرة بحيث يشمل علمه كل شي‏ء بإذن اللَّه تعالى.
إنّ الذين يرتبكون  إذا ما واجهوا مشكلة معقّدة، أو أنهم يرجعون إلى الآخرين يطلبون منهم الحلول «لأن ما عندهم من علم يقصر عن الإجابة على أسئلة المجتمع المسلم» ليس لهم أنْ يتحمّلوا مسؤولية إمامة الأمّة وقيادتها.. فالإمام يجب أن يكون أعلم الناس وأوعاهم لدين اللَّه، وأنْ يملأ الفراغ الذي يتركه النبيُّ لكي يستمر الإسلام بمسيره الصحيح الخالي من كل انحراف في مسيرته.
 وأما شرط العصمة؛ فلا بدّ أيضاً أن يكون الإمام معصوماً أي مصوناً من كل خطأ وإثم، وإلاّ فإنه غير قادر على أن يكون قائداً فذاً فريداً، وقدوة وأسوة للناس يعتمدونه ويتبعونه.
لا بدّ للإمام من أنْ يستحوذ على قلوب الناس، فيأتمرون بأمره دون اعتراض.. فمن كان ملوّثاً بالإثم لا يمكن أبداً أن يبلغ هذا المبلغ في القلوب، ولا أن يكون موضع ثقة الناس واطمئنانهم.
ومن كان في أعماله اليومية عرضة للأخطاء والهفوات، كيف يمكن أن يوثق به في إدارة أعمال المجتمع، ويُطمأنّ إلى آرائه وتنفيذها بدون أي اعتراض؟ إذن، لا بدّ من أنْ يكون النبيُّ معصوماً وكذا خليفته مثله يجب أن يتحلّى بصفة العصمة لئلاّ يقع في المعاصي فيغرّر غيره بالوقوع فيها، وهو خلاف اللطف الإلهي من بعثه وإرساله ليقرّب الناس إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية.
كما يجب على الإمام أنْ يكون متحرّراً من قيود النفس الأمّارة والثروة والجاه لكي لا يستطيع أحد إغراءه والتأثير عليه بحيث يحمله على الاستسلام والمساومة. هذا مضافاً إلى اشتراط الجاذبية الأخلاقية لما في دماثة الأخلاق من تأثير على الدعوة، وقد أشار القرآن الكريم إلى أنّ الفظاظة إحدى عوامل الهدم في الدعوة بقوله تعالى:فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ.
إنّ الخشونة وسوء الخلُق مما يثير النفور والتباعد عند الناس، بحيث يُعتبر من العيوب الكبيرة في النبيّ أو الإمام.. لذلك فإنّ الأنبياء والأئمة منزّهون عن هذا العيب.
هذه أهم المواصفات في الإمام وهناك مواصفات أخرى يجب توفّرها فيه كأن يكون أعدل وأفقه وأورع وأحكم وأشجع وأسخى الناس، إلخ....
 عود على بدء:
بعد أن انتهينا من هاتين النقطتين، أعني الحكمة من وجود الإمام والشروط المعتبرة فيه، تبقى نقطة هامة مفادها:
من المسؤول عن تعيين الإمام؟
يعتقد العامة أنّ النبيّ توفّى دون أن ينصّب خليفة بعده، ويعتقدون أيضاً أنّ هذه المهمة تقع على عاتق المسلمين أنفسهم، فهم أنفسهم عليهم أنْ يختاروا قائدهم بطريق إجماع المسلمين أو ما يُعبَّر عنه بالشورى باعتباره  أي الإجماع  أحد الأدلة الشرعية لانتخاب الإمام، ويؤكدون مقالتهم هذه بأنّ الانتخاب بواسطة الإجماع أو الشورى الجماعية قد حصل فعلاً حيث اختاروا أبا بكر خليفة على الأمّة بإجماع الأمة، ثم اختار الخليفة الأول الخليفة الثاني عمر  بن الخطاب، والثاني عيّن الثالث عثمان عبر طريق الشورى السداسية المؤلفة من ستة أشخاص يختارون أحدهم هم: الإمام عليّ‏  بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام)، وعثمان وعبد الرحمن‏  بن عوف، وطلحة، والزبير، وسعد  بن أبي وقاص.
وقد اشترط عمر  بن الخطاب أنّه إذا انقسمت الشورى إلى قسمين، وكان كل ثلاثة في طرف، فإن الطرف الذي فيه عبد الرحمن‏  بن عوف)صهر عثمان( هو الذي يختار الخليفة، وهذا ما حصل، إذ الأكثرية المؤلفة من سعد  بن أبي وقاص وعبد الرحمن‏  بن عوف وطلحة اختاروا عثمان‏  بن عفّان.
والسؤال الذي يفرض نفسه:
 هل للأمة أنْ تختار خليفة النبيّ؟
...ليس من الصعب الجواب على هذا السؤال، فنحن إذا اعتبرنا الإمامة بمعنى الحكم الظاهري على المجتمع الإسلامي، فإن اختيار الحاكم بالرجوع إلى آراء الناس أمر متداول بين العقلاء، ومع هذا فإنّ اختيارهم لمن هو دون المستوى المطلوب من العلم والعدالة غير كافٍ لتبرير زعامة المتقدمين على أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) من حيث إنّهم ليسوا بالمستوى المطلوب كي يستلموا إمامة الأمّة.
لكن إذا كانت الإمامة بالمعنى الذي تعتقده الإمامية طبقاً لمفهوم القرآن الكريم الذي اعتبر الخليفة أو الإمام بمستوى النبيّ لا يقلّ عنه بشي‏ء ما خلا الوحي التشريعي، فلا شك حينئذٍ أنه ليس لأحد الحق في تعيين خليفة النبيّ سوى اللَّه تعالى ورسوله وبأمر من اللَّه تعالى، ولا خصوصية لانتخاب النبيّ للخليفة سوى ما يأمره الباري به عزّ وجل.
والخليفة بعد النبيّ يجب أن يتحلّى كما قلنا سابقاً  بشرطين رئيسيين:
 أحدهما: العلم بأصول الديانات السماوية لا سيما القرآن الكريم والسنّة المطهرة.
 وثانيهما: العصمة عن الخطايا والآثام، وغير ذلك مما هو لازم لمن يتصدّى للاضطلاع بمهمات هذا المنصب الجليل.
وتمييز هذه الصفات في شخص ما، ليست مستطاعة لكلِّ أحد إلاّ من خلال اللَّه عزّ وجلّ ورسوله الأعظم‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فهو الذي يعلم فيما توفرت فيه هذه الصفات أو الشروط المعتبرة، لا سيّما العصمة منها حيث لا يمكن لأحد أن يتعرّف على هذا المعصوم لكونها أمراً خفياً عن الناس، يظهره اللَّه على يد من جرت على يديه المعجزة أو الكرامة للتدليل على صحة تعيينه من قِبَل اللَّه عزّ اسمه.
إنّ الذين عهدوا اختيار الإمام الخليفة إلى الناس، قد غيّروا في الحقيقة المفهوم القرآني للإمامة، وإدارة شؤون الناس الدنيوية، وإلاّ فإن شروط الإمامة بمعناها الجامع الكامل لا تعرف إلا عن طريق الإلهام الربوبي، لأنه عزّ وجل لوحده العالم «استقلالاً» بهذه الصفات.
إن مسألة انتخاب الخليفة أشبه بانتخاب النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي لا يمكن أن ينتخبه الناس بالتصويت، بل اللَّه هو الذي يختاره ويتعرّف عليه الناس عن طريق المعجزة، لأن الصفات اللازم توفرها في النبيّ لا يعرفها إلاّ اللَّه عزّ قدسه.
من هنا يعتقد الإمامية أن النبيّ عيّن الخليفة بأمرٍ من اللَّه تعالى لأمور عدة:
 الأول: إنّ الإسلام دين عالمي وخالد لا يقتصر على زمان ولا مكان معينَين، كما أن الإسلام لم يكن بعدُ قد تجاوز شبه الجزيرة العربية عند شهادة النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فكيف يكون عالمياً وخالداً، ولا يترك بعده مَنْ يبلّغ الناس أحكام الدين ومبادئه.
 الثاني: إن الرسول الأعظم‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يبلّغ كل الأحكام الشرعية التي أنزلها اللَّه عز وجل عليه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لفقدان الظروف الموضوعية كي يبلّغها للناس: إما لعدم توفر القابليات لذلك، وإما لأنّ زمانها لم يأت بعدُ، فلا بدّ من حاملٍ لتلك الأحكام لكي يوصلها إلى أهلها.
 الثالث: إنّ النبيّ كان يعلم أنه إن لم يعيّن الخليفة، فسوف تكثر الخلافات والانشقاقات والتأويلات في فهم النصوص مما يؤدي إلى التقاتل والفتنة، فضلاً عن ذلك فإن التنبؤ بالمستقبل المشرق وإعداد المقدمات للاستمرار في إدامة الإسلام كدين تستوعب أحكامه كل مجالات الحياة، كان من أهم الأمور التي لا بدَّ أن يفكّر فيها كل قائد، فكيف بسيّد القادة والحكماء رسول اللَّه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)؟
وإذا تجاوزنا كل ذلك، نلاحظ أن النبي كان أحياناً يصدر تعليماتٍ خاصة في كثير من الأمور البسيطة العادية في الحياة اليومية، فكيف يمكن أن يهمل قضية كقضية الخلافة والإمامة ولا يضع لها منهاجاً خاصاً؟!
فحياة النبيّ الأكرم زاخرة بالشواهد الحيّة على مدّعى الشيعة، حيث إنه لم يترك المدينة يوماً ما إلاّ بعد أن يعيّن من يقوم مقامه فيها، فكيف يترك الدنيا من غير أن يعيّن أحداً من بعده يخلفه على أمته، وهو يعلم أن عدم الاستخلاف سيؤدي إلى إراقة الدماء، وما لا تُحمد عقباه؟!!
لا يشك ذو مسكة أن عدم تعيين الخليفة، ينطوي على أخطار كبيرة على الإسلام اليافع، وإنّ العقل والمنطق يحكمان بأن أمراً كهذا يستحيل صدوره عن نبيّ الإسلام.
وما قيل  والقائل هم العامة  من أن رسول اللَّه عهد بذلك إلى الأمة، عليهم أن يبيّنوا أدلتهم من الكتاب والسنّة والعقل، وأن النبيّ صرّح بذلك علانية، ولكن ليس ثمة دليل  عندهم  من هذا القبيل.
أما ما ادعوه من أن النبيّ أوكل الأمر إلى الأمة تنتخب الخليفة ولم يعيّن بنفسه أحداً، فدونه خرط القتاد، وذلك:
لأن الإجماع لم يتحقق على خلافة أبي بكر، لأن معنى الإجماع هو أن يتفق المسلمون على أمرٍ ما، وحيث إن إجماعاً كهذا لم يحصل عند انتخاب أبي بكر، اللهم إلا ما حصل عند اجتماع عدد من الصحابة في المدينة، فانتخبوا أبا بكر، مع أن سائر المسلمين في سائر بلاد الإسلام لم يشاركوا مطلقاً في هذا الاجتماع ولا في الإدلاء بآرائهم، بل كان الكثيرون في المدينة نفسها كالإمام أمير المؤمنين وسيّد الموحدين عليّ‏  بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام) وبني هاشم وثلة من الصحابة الأجلاّء أمثال سلمان وأبي ذر وعمّار والمقداد لم يحضروا ذلك الاجتماع الخطير، بل كانوا ضده، وعليه، فإنّ اجتماعاً كهذا لا يمكن قبوله.
ثم إذا كان هذا الأسلوب هو الصحيح الذي يجب اتباعه، فلماذا لم يتبعه أبو بكر في انتخاب خليفته؟ ولماذا عيّن بنفسه خليفته عمر  بن الخطاب؟
فإذا جاز لأبي بكر أن يعيّن خليفته، فلِمَ لا يجوز لرسول اللَّه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يفعل ذلك، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!
الحق أن يقال يتعين على النبيّ قبل غيره أن ينصب خليفةً على الأمة حتى لا يكون عدم التعيين أو التنصيب وصمة عار عليه إلى أبد الآبدين، حاشاه روحي فداه ثم حاشاه.
وإذا كانت البيعة العامة التي تلي الانتخاب تحل المشكلة، فإن ذلك وارد أيضاً بالنسبة للنبيّ الأكرم وعلى أفضل وجه.
فضلاً عن ذلك: إنّ عثمان بن عفّان جاء للخلافة عن طريق الشورى السداسية، وهذا مخالف لطريقة عمر  بن الخطاب الذي جاء نتيجة تعيين الأول له، فمجي‏ء عثمان خلاف الطريقة المتبعة في التعيين، وكسراً للسنّة التي أتتْ به إلى الخلافة، بمعنى أن عثمان لم يلتزم الإجماع ولا التعيين الفردي، بل جاء بمجلس الشورى، فتكون خلافته غير شرعية على مبدأ العامة القائلين: إنّ الخليفة يأتي بمرسوم تعييني أو انتخابي، وكلاهما لم يتحققا.
هذا مضافاً إلى أنه لو كانت الشورى صحيحة، فلماذا تُقتصر على ستة أشخاص بعينهم، ويُكتفى برأي ثلاثة من ستة؟!
وهل هؤلاء الثلاثة الذين انتخبوا عثمان هم صفوة الصحابة؟
وهل هم أفضل من عليّ أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) حتى يكون رأيهم مقدّماً على رأيه الذي عبّر عنه الرسول‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): «بأنه مع الحق والحق معه، يدور معه حيثما دار»؟
وهل هناك رواية صحيحة دلت على أفضليتهم من أمير المؤمنين علي‏ (عليه السَّلام)؟
أسئلة تخطر ببال كل باحثٍ ومحقق يتعامل مع التاريخ الإسلامي بصدق وإخلاص، وبقاؤها دون جواب يدل على أن تلك الأساليب الملتوية لم تكن هي الطريق الأمثل لنصب الإمام.
ولنفرض أن نبيّ الإسلام محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)  وفرض المحال عادة ليس محالاً  لم يعيّن أحداً يخلفه من بعده، ولنفرض أن اختيار الخليفة كان على عاتق الأمة، فهل يجوز عند الانتخاب أن نتجاوز الأعلم والأتقى والأكثر تمييزاً عن الآخرين من جميع الوجوه، ثم نبحث عن الخليفة الأدون بكثير من الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام)، بل لا يقاس بالإمام‏ (عليه السَّلام) أحد من الناس.
لقد قام الإجماع بأعلمية الإمام علي‏ (عليه السَّلام) من غيره من الصحابة، بل إن الصحابة أنفسهم كانوا يرجعون إليه في حلّ مشاكلهم والصعوبات التي كانت تعترضهم، ومنهم عمر  بن الخطاب الذي صرّح بعبارات شتى  تدل على ذلك، منها:
لا أبقاني اللَّه لمعضلة ليس فيها أبو الحسن.
ولولا عليّ لهلك عمر.
فلو فرضنا جدلاً: أن انتخاب الخليفة كان موكولاً إلى الناس أنفسهم، فإن أمير المؤمنين عليّاً (عليه السَّلام) كان أليق الموجودين وأجدرهم بالخلافة، لكن ويا للأسف للسياسة الفاحشة أصحابها، وللدجل فنانوه ومهندسوه، وسيأتي يوم يعلو فيه صوت الحق، وتنكّس راياتُ الضلال، ويظهر الصبح لذي عينين،رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ.
بما ذكرنا يتبيّن  معك أخي القارى‏ء  ضرورة تعيين الخليفة بعد النبيّ، لأن التغافل عنه منقصة في المشرّع الحكيم لا يصح صدوره عنه بحالٍ من الأحوال، والخليفة المنصوب هو الإمام عليّ‏  بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام)، والأدلة على إثبات خلافته أكثر من أن تحصى، ولكنّنا سنذكر بعضاً منها على نحو الاختصار، تسهيلاً على القارى‏ء العزيز وتشريفاً بذكر فضائله ومناقبه‏ (عليه السَّلام).
والأدلة على إثبات ذلك نوضحه ضمن مقصدين:
 المقصد الأول:
الأدلة العقلية الدالة على إمامته‏ (عليه السَّلام).
 المقصد الثاني: الأدلة النقلية الدالة على ذلك.
 أما المقصد الأول: فالأدلة على إثبات إمامته‏ (عليه السَّلام) على ضوء العقل وأحكامه كثيرة منها:
 الأول: اللطف الإلهي:
ومفاد هذا الدليل: إن اللَّه تعالى بمقتضى رأفته بالعباد وتلطفه بهم، يجب عقلاً أن يبعث للناس رسولاً يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة، وينذرهم عمّا فيه فسادهم، ويبشرهم بما فيه صلاحهم. وإنما كان اللطف من اللَّه تعالى واجباً، فلأن اللطف بالعباد من كماله المطلق وهو اللطيف بعباده الجواد الكريم، فإذا كان المحلُّ قابلاً ومستعداً لفيض الجود واللطف، فإنه تعالى لا بدّ أن يفيض لطفه، إذ لا بخل في ساحة رحمته، ولا نقص في جوده وكرمه.
وليس معنى الوجوب هنا، أن أحداً يأمره بذلك  كما ربما يُتصور  فيجب أن يطيع، تعالى اللَّه عن ذلك علواً كبيراً، بل معنى الوجوب في ذلك هو كمعنى الوجوب في قولك: إنه واجب الوجود «أي اللزوم واستحالة الانفكاك». فكل ما كان له علاقة بما يبعّد الناس عن المعصية، وما يقرّبهم من الطاعة، يجب بضرورة العقل أن يوجده لأنه محصّل لغرضه وهو طاعتهم له وانقيادهم له، ولو لم يوجده لناقض غرضه، إذ كيف يأمرهم بطاعته ثم لا يحقق لهم الفُرص التي تمكّنهم منها.
ووجوب اللطف لا يختص بالأنبياء والمرسلين، بل يشمل الأوصياء والأولياء المنصوبين والمبعوثين  تماماً كالأنبياء والرسل  من قبل اللَّه تعالى، لأن مهام هؤلاء كمهام اولئك بمناط واحد، لا يختلفون عن بعضهم البعض إلاّ في تلقي الوحي التشريعي، وبحسب قاعدة اللطف وجب كون الإمام معصوماً، وغير الإمام علي‏ (عليه السَّلام) من الثلاثة المتقدمين عليه لم يكن أحد منهم معصوماً بالإجماع بين الفريقين، فيتعين كونه‏ (عليه السَّلام) هو الخليفة الحق.
وبعبارة أخرى: لمّا اقتضى اللطف الإلهي أن يصطفي اللَّه سبحانه الأنبياء لتقريب العباد إلى طاعة اللَّه وإبعادهم عن معصيته، وللوصول إلى الكمال الذي أراده لهم المولى عزّ وجل وهو المعرفة، استدعى هذا اللطف بعينه أن يستمر إلى ما بعد مرحلة الأنبياء، بأن يجعل للدين أئمة هم أفضل الخلق وأعرفهم وأعلمهم بحقائق الدين، لكي يوصلوا النفوس التي لم تكتمل بعدُ إلى الكمال ويبلّغوا الأحكام المشرّعة التي لم تبلَّغ للناس لأسباب خاصة، ويربّوا من لم يتشرف برؤية النبيّ الأكرم والاستفادة منه، وليس من المعقول أن يهمل اللَّه الأمة ويتركها بدون من يدير شؤونها، في حين إنّ جميع الناس متساوون من حيث الحاجة إلى من يربّيهم ويعلّمهم، وجميعهم متكافئون بقاعدة اللطف.
فمن البعيد جداً وخلاف الحكمة أن يترك النبيُّ أمته بلا راعٍ أو يتركها إلى الظروف والصدف، لأن الإمامة أو الخلافة بنظر الإمامية هي نيابة عن الرسول في المجالات التشريعية والتنفيذية، وله الولاية المطلقة على العباد بأمر منه تعالى، فولايته طولية لا عرضية، لأن الخليفة الإمام هو الرابط بين الناس وبين ربهم في إعطاء الفيوضات الباطنية كما أن النبيَّ رابط بين الناس وربهم في إعطاء الفيوضات الظاهرية، فإذا كان كذلك فكيف يمكن للناس أن يحيطوا بهكذا إنسان حتى يقال إنه يمكن للناس أو أهل الحل والعقد أو الشورى أن يعيّنوا الإمام السفير والحجة تماماً كالنبيّ لا فرق بينهما سوى بالوحي التشريعي دون التسديدي حيث يتساويان به.
وبما أن رسالة الإسلام أكمل الرسالات والشرائع، وقد بلّغ النبيُّ الأعظم كل أحكامها الحقة من أصول وفروع ومعتقدات خلال فترة بعثته‏ (عليه السَّلام) ثم ارتحل إلى ربه، والرسالة لمّا تستكمل بعدُ جميع أهدافها، لذا كان من الواجب في حكمته تعالى من باب اللطف والكمال المطلق المتصف تعالى بهما أنْ يوكل لإتمام مسيرة تطبيق الشريعة لأُناس مطهرين معصومين عن الخطأ والزلل والهوى نتيجة علمه عزّ وجل الأزلي بأنهم سيطيعونه ولا يعصونه، يبيّنون أحكامه تعالى في كل عصر، وفي كل المجالات، وبالأخص بعد وفاة النبيّ الأكرم حيث الإسلام لم يكن متمكّناً بعدُ في النفوس التي تربّت على تقاليد الصحراء الجافة، بالإضافة إلى تربص المشركين في الجزيرة يكيدون للإسلام وللمسلمين، وهجمات الروم المتكررة على أرض العرب، مع تحذير النبيّ لأصحابه من أن يرجعوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض، كل ذلك يستدعي وجود إنسان كامل نقي السريرة، معصوم مسدّد بالفيض الإلهي، يحلُّ مكان الرسول الأعظم‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في أداء الرسالة التي جاءت لتنقذ البشرية من جهل العصبية والحقد والرذيلة، ولينعم الناس بقطر السماء وخيرات الأرض، وليس في أصحاب النبيّ محمّد من العصمة والكمال سوى الإمام عليّ وأبنائه المطهرين‏ (عليهم السَّلام)، ولا يعني ذلك أن إمامة أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) كانت ظرفاً استثنائياً آنذاك، وإنما هو إمام حتى مع وجود النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وإمامته في حياة النبيّ محمّد فعلية إلاّ أنه سكت لوجود النبيّ العظيم كما سكت الإمام الحسين بوجود الإمام الحسن‏ (عليه السَّلام) لأن ما ينطق به الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) هو نفس ما يريد أن ينطق به الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام)، وكذلك الحسنان‏ (عليه السَّلام).
ومهام النّبوة عظيمة لا بد من مؤازر لها يكون بمستوى عالٍ من الكمال، فاقتضت حكمة العقل والشرع إيجاده، وقد نص عليه الرسول منذ بداية بعثته بدءاً بحديث الدار، وانتهاءاً بحديث الدواة والكتف وهو على فراش الموت.
 الثاني: العصمة:
يجب أن يكون الإمام معصوماً؛ ومن ليس بمعصوم فليس بإمام، وغير الإمام عليّ‏  بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام) لم يكن معصوماً بإجماع المسلمين، فتعين أن يكون هو الإمام‏ (عليه السَّلام) بعد رسول اللَّه.
وبعبارة أخرى:
الإمام يجب أن يكون معصوماً، وغير الإمام علي لم يكن كذلك، فتعين أن يكون هو الإمام؛ فهنا صغرى وكبرى من الشكل الأول؛ أما الكبرى فحاصلة بالإجماع منّا ومن العامة، وأما الصغرى فلما سيمر من الأدلة النقلية الدالة على وجوب إطاعته‏ (عليه السَّلام) إطاعة مطلقة، فلو لم يكن الإمام معصوماً لم يؤمن منه الخطأ، فإما أن يجب متابعته عند صدوره منه، وإما أن يجب ردعه عنه وإنكاره منه، فعلى الأول يلزم أن يكون قد أمرنا اللَّه سبحانه بالقبيح وهو محال، وعلى الثاني يكون الإنكار له مضاداً لوجوب طاعته، وأيضاً فإن الحاجة إلى الإمام تماماً كالحاجة إلى الرسول أو النبي، فكما أن زمناً لم يخل من نبي منذ آدم إلى سيّدنا خاتم الأنبياء محمّد كذلك لن يخلو زمن بعد نبينا من وجود إمام يزيل الشبهات ويفسّر الكتاب ويبيّن ويوضح المتشابهات، ويأتي بالتكاليف الواقعية، لا سيّما وأن شريعة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ناسخة لكل الشرائع، فلا بد لها أن تعطي لكل حادثة مستجدة حلاً لها، وهذا لا يمكن حصره في فترة زمنية قصيرة، فيتعين إيجاد أشخاص وأفراد كاملين بمنزلة النبيّ يبيّنون ما خفي على الناس من معرفة دينهم، يشرحون لهم ما عجزوا عن حلّه، وهذا ما يتكفله المعصوم الذي ينوب عن النبيّ، فإذا لم يوجد اللَّه تعالى للناس من يبيّن لهم ما خفي عليهم مع حاجتهم إلى ذلك، فسيؤدي ذلك إلى إغرائهم بالقبيح وهو مستحيل عليه تعالى.
 الثالث: النص:
الإمام يجب أن يكون منصوصاً عليه، وغير أمير المؤمنين علي‏ (عليه السَّلام) من المشايخ الثلاثة: أبي بكر وعمر وعثمان، لم يكونوا منصبين من جهة النص بإجماع المسلمين، وإنما قلنا بوجوب التنصيص لما عرفت من أن العصمة شرط في الإمام، والعصمة من الأمور الخفية التي لا يعلمها إلاّ اللَّه تعالى، فمن هنا أخبرنا عزّ وجل أن المتحلي بالعصمة والكمال هو الإمام علي‏ (عليه السَّلام) دون غيره، فثبت بذلك أنه المتعين قطعاً.
 الرابع: قيام  السيرة:
إنّ سيرة النبي‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) تقتضي التنصيص، لأنه أشفق بالأمة من الوالد بولده، ولهذا لم يقصّر في إرشاد أمور جزئية مثل ما يتعلق بدخول المسجد والخروج منه، بل بيّن أحكام الدخول إلى الحمام وكيفية الاغتسال والاستنجاء وقص الشارب واللحية والأظافر إلى غير ذلك مما تحتاجه الأمة حتى إرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة، ومع ذلك كيف يهمل أمرهم فيما هو من أهم الواجبات وأعظم المهمات، ولا ينص على من يتولى أمرهم بعده؟!
ومضافاً إلى كل ذلك، فإن النبيّ لم يفارق المدينة قط إلاّ وخلّف فيها من ينوب عنه، ولا أرسل جيشاً إلاّ وأمّر عليه كما تقتضيه الإدارة والسياسة، فكيف يمكن أن يتركهم في غيبته الدائمة مَعْرَضاً للفتن، وغرضاً لسهام الخلاف على قرب عهدهم بالكفر، وتوقع الانقلاب منهم ووجود من مردوا على النفاق، وتربص الكفار بهم الدوائر كما نطقت به آيات الكتاب العزيز، وكيف لم يطالبه المسلمون على كثرتهم بنصب إمام لهم مع طول مرضه وإعلامه مراراً لهم بموته؟ فلمّا لم يقع الطلب منهم مع ضرورة حاجتهم إلى إمام علم أنه قد أغناهم بالبيان الذي علمه الشاهد والغائب، وما هو إلاّ نص الغدير ونحوه، فيكون أمير المؤمنين عليّ هو الإمام، ولا يمكن أن يكون تشريع جواز ترك الاستخلاف سبباً لترك النبيّ النص كما زعموا، لأنّ من فوائد التشريع اتباع الناس للنبيّ المشرّع في فعله، وبالضرورة لم يتفق عند أحد من الملوك أو الخلفاء  الذين تعاقبوا زوراً على سدة الخلافة الإسلامية  أن ترك النص على من بعده عملاً بالسنّة.
هذا مضافاً إلى أن اللَّه تعالى قد أكمل دينه وأتم نعمته في غدير خم بقوله تعالى:الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً.
ومن المعلوم أن الإمامة من تمام الدين، فمن زعم أن اللَّه تعالى لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللَّه، ومن ردّ كتاب اللَّه فهو كافر، ولو ذهب النبيُّ ولم يعيّن خليفة لدل على أن الدين لم يكتمل، وأن النعمة لم تتم، وذلك بسبب حصول الخلاف والشِّقاق بين المسلمين من جراء السقيفة وتعنت أصحابها وقمعهم للمخالفين لها.
 الخامس: كون الإمام أفضل الرعية:
أي يجب أن يكون الخليفة أو الإمام أفضل الرعيّة علماً وعملاً، وغير أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) من الثلاثة لم يكونوا كذلك، فتعيّن كونه‏ (عليه السَّلام) هو الإمام بعد النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
أما أن الإمام لا بدّ أن يكون أفضل فلأنه لو لم يكن أفضل لا يخلو إما أن يكون مساوياً أو مفضولاً، فأما المساوي فيستحيل تقديمه لأنه يفضي إلى الترجيح بلا مرجح، وأما المفضول فترجيحه على الفاضل يبطله العقل لحكمه بقبح تعظيم المفضول وإهانة الفاضل، ورفع مرتبة المفضول، وخفض مرتبة الفاضل، وهو بديهي عند العوام فضلاً عن الخواص.
وخالف الأشاعرة ذلك، فأجازوا تقديم المفضول على الفاضل تأسيساً لخلافة أئمتهم الذين سنّوا لهم هذا الاختيار مع الاعتقاد ضمناً أن الإمام علياً (عليه السَّلام) أفضل الجميع.
وقد خالفوا في ذلك مقتضى العقل ونص الكتاب، فإن العقل يقبّح تعظيم المفضول وإهانة الفاضل كما قلنا سابقاً، فلينظر الإنسان إلى عقله هل يحكم بتقديم المبتدي في الفقه على مثل ابن عبّاس وأمثاله؟! وقد نص على إنكاره القرآن أيضاً فقال تعالى:
أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَ يَهديَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ.
هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ.
وغير الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام) أدنى بدرجات منه بل لا يُقاس به روحي فداه أحد من الخلق على الإطلاق سوى نظيره وحبيبه رسول اللَّه محمّد والصدّيقة فاطمة (عليه السَّلام)، أما أن أحداً لم يكن أفضل منه فبتسليم أعيان العامة على ذلك منهم ابن أبي الحديد حيث قال
«وأما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون من تفضيله‏ (عليه السَّلام)، وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل، وهل المراد به الأكثر ثواباً أو الأجمع لمزايا الفضل والخلال الحميدة، وبيّنا أنه‏ (عليه السَّلام) أفضل على التفسيرين معاً، وليس هذا الكتاب موضوعاً لذكر الحجاج في ذلك أو في غيره من المباحث الكلامية لنذكره، ولهذا موضع هو أملك به».
وكثرة الثواب والخصال الحميدة مستجمعة فيه صلوات اللَّه عليه، أما كثرة الثواب فلظهور أنه مترتب على العبادة، وبكثرتها وقلتها تتفاوت كمية الثواب والجزاء زيادة ونقصاناً، كما أن سيرته‏ (عليه السَّلام) تشهد على أنه أعبد الكل، فيكون أكثر مثوبة، ولو لم يكن له من العبادات إلاّ ضربته يوم الخندق التي قال فيها رسول اللَّه: «إنها أفضل من عبادة الثقلين» لكفى في إثبات هذا المرام فضلاً عن سائر عباداته التي لا يضبطها الدفاتر والصحف ولا تحصيها الزبر والطوامير.
وأما الخصال الحميدة والفضائل النفسانية وسائر جهات الفضل فكثيرة جمة يعجز الجن والإنس عن إحصائها، إذ كل نفس من أنفاسه الطاهرة معجزة وفضيلة، كانت من اللَّه وإلى اللَّه تعالى، ومن كان كله للَّه فكيف يمكن إحصاء فضائله؟!
من هنا أشار النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى هذا الأمر بقوله كما روى الخطيب الخوارزمي: «لو أن الرياض أقلامٌ والبحر مداد والجن حسّابٌ والإنس كتّاب ما أحصوا فضائل علي‏  بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام)».
 السادس: الوصية عند العقلاء.
اتفق العقلاء من كل دين حتى عند عبدة الأوثان أن يوصوا بحفظ أمور دينهم ودنياهم بعد مماتهم، وهذه الوصية مما اقتضتها أحكام الفطرة والعقل والشرع.
أما كونها من أحكام الفطرة فلأن البشر مجبولون بالفطرة على أن يشرفوا على أعمالهم بأنفسهم، ووفقاً لما ترتأيه عقولهم وأهواؤهم، فلا يحب الإنسان أن يشاركه غيره في قراره وما تهواه نفسه، فهو لا يريد أن يُفْلِتْ زمام أموره من يده فتكون بيد شخص آخر غريب عنه، وهذه الرغبة لا تنتهي عند ساعة الاحتضار بل تمتد إلى ما شاء اللَّه من عمر الزمن ما دام الإنسان يشاهد آثاره شاخصة بعد الموت، لذا نراه يوصي إلى غيره لينجز له أعماله التي عجز عن تحقيقها في حياته أو حالت الظروف في عدم تحقّقها أو لديمومة استمرارها لأهميتها، وهذه الغريزة الفطرية ملحوظة حتى عند الحيوانات، إذ إنّ أكثرها عندما يشعر بقرب موته، ويرى علامات الموت، فإنه يشيد لأفراخه بيتاً محكماً، وعشاً رصيناً بعيداً عن كل خطر، فهذا حال الحيوان فكيف بالإنسان الحريص على تحقيق أمانيه ومراميه، فهل يُعقل أنْ يذهب النبيُّ من عالم الناسوت ويترك أمته تتلاعب بها الأهواء وتتقاذفها الشهوات وسطوات الجبارين والظالمين المستبدين يغيّرون دينه ويبدّلون أحكامه وينهبون تراثه؟!
هذا بحسب الفطرة، وأما بحسب العقل، فلا شك أن العقل يفرض سيطرته على الإنسان من خلال ما يفكّر به الإنسان نفسه من ضرورة الاهتمام بأموره وتنظيمها وعدم إهمالها، ويدرك أن عليه تعيين وصي له بعده لحفظها وحراستها لتنظيم آثاره والإفادة منها ويوصي بالمحافظة عليها لكي يتسنى له الإفادة منها بعد موته بنفس المقدار الذي كان يطمع أنْ يفيد منها في حياته؛ والعقلاء في العالم ينظرون إلى الشخص الذي يموت بلا وصية تاركاً وراءه زوجة وذرّية ومحل تجاري أو مزرعة أو أمر متعلّق بالحكومة أو بالمسائل العلمية، أو أمثال ذلك بدون تدبير، ينظرون إلى مثل هذا الشخص نظرة امتهان وازدراء، ويرونه إنساناً ناقصاً ويذمّونه على ترك الوصية على عكس ما لو أوصى وعيّن له وصياً كفوءاً خبيراً بصيراً مدبراً يدير شؤونه ويتولى أمر ذريّته من أولاده الصغار وغيرهم، فإنهم يثنون عليه ويمجّدونه وينظرون إلى عمله بوصفه عملاً إنسانياً.
وأما حكم الشرع الذي شُرّع على أساس حكم الفطرة وحكم العقل والوصية في ضوئه حكم ممدوح ومستحسن في جميع الشرائع والأديان. وقد جاءت الوصية في الشريعة الإسلامية المقدّسة التي هي أكمل الشرائع وأتمّها بحدود ومواصفات معيّنة واضحة لا غبار عليها : قال تعالى:كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ، فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
 السابع: الإمامة الإلهية:
الإمامة سلطنة إلهية وليست رياسة عامة كما يدّعي العامة، إذ الرياسة العامة بعض لوازم تلك السلطنة، وهذه تستلزم أن يكون صاحبها على مقدار كبير من المعرفة باللَّه وبما جاء به الأنبياء والمرسلون وأن يكون متحلياً بأوصاف الزهد والشجاعة والإيمان والعبادة، ومن الواضح اتفاق الأمة على أن الإمام أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) هو الوحيد من بين الصحابة وجميع الأمة ـ بل وعامة الخلق ـ الذي كان مستجمعاً لهذه الصفات على الوجه الأكمل، فتعيّن كونه‏ (عليه السَّلام) الإمام والخليفة بعد رحيل النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
هذه بعض الأدلة العقلية الدالة على أحقية أمير المؤمنين عليّ‏  بن أبي طالب بالخلافة دون غيره ممن تقدّم عليه من المشايخ ومن تأخر عنه من ملوك بني أمية وبني العبّاس.
 وأما المقصد الثاني: وهو الأدلة النقلية الدالة على أحقيته بالخلافة، فهي على قسمين:
القسم الأول:
الآيات القرآنية.
القسم الثاني: الأحاديث النبوية الشريفة.
أما القسم الأول: فالآيات المجيدة كثيرة جداً نذكر بعضاً منها:
 الآية الأولى:
قوله تعالى:إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ.
اتفق المفسرون قاطبة على أنها نزلت في بيان فضل وأحقيَّة الإمام أمير المؤمنين عليّ‏  بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام) حيث تصدّق بخاتمه على فقير وهو راكع، فقال النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) للفقير:
من أعطاك هذا الخاتم؟ (وسؤاله لا من جهل وإنما تجاهل لإبراز الفضل).
قال الفقير: ذاك الراكع، فأنزل اللَّه تعالى إنما وليكم....
وأخرج السيوطي اثني عشر حديثاً بطرق متعددة تدل على أن الآية المباركة نزلت في الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام)، منها ما أخرجه عن ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال
أتى عبد اللَّه بن سلام ورهط معه من أهل الكتاب نبي اللَّه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عند الظهر، فقالوا: يا رسول اللَّه، إن بيوتنا قاصية لا نجد من يجالسنا ويخالطنا دون هذا المسجد، وإن قومنا لمّا رأونا قد صدقنا اللَّه ورسوله وتركنا دينهم أظهروا العداوة وأقسموا أن لا يخالطونا ولا يؤاكلونا، فشق ذلك علينا، فبينا هم يشكون ذلك إلى رسول اللَّه إذ نزلت هذه الآية على رسول اللَّه إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ونودي بالصلاة صلاة الظهر، وخرج رسول اللَّه فقال أعطاك أحد شيئاً؟
قال نعم، قال من؟
قال ذاك الرجل القائم، قال على أي حال أعطاكه؟
قال وهو راكع، قال وذلك عليّ‏  بن أبي طالب؛ فكبَّر رسول اللَّه عند ذلك وهو يقول: وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ.
وتقريب الاستدلال بالآية المباركة:
أن لفظ «الولي» قد جاء في اللغة تارة بمعنى المعين والناصر كقوله تعالىوَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ.
وأخرى بمعنى المتصرف بالأمر الشامل للأموال والأنفس والأحق به والأولى بذلك، ولا يناسب مع وجود أداة الحصر استعمال لفظ «الولي» بغير الأولى بالتصرف لا سيّما في قولهم «السلطان وليُّ من لا ولي له، ووليُّ الدم أولى به، وأيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» إذ حمل الولاية في الآية على المعنى الأول غير صحيح، لكونها بذلك المعنى عامة لجميع المؤمنين كما يشهد بذلك الآية السابقة، فلا بد أن يكون المراد به المعنى الثاني كي يستقيم الحصر المستفاد من كلمة «إنّما».
وبعبارة أخرى:
إن الحصر في الآية لا يراد منه سوى الأولى بالتصرف وإلا فلا يصح الحصر إذ المحبة والنصرة لا اختصاص لهما بقوم دون قوم، هذا مضافاً إلى وحدة السياق فإن المراد من الولي في اللَّه ورسوله هو الأولى بالتصرف، وهكذا في الذين آمنوا، كما أن خارجية القضية تشهد بكون المراد منها هو ما وقعت من الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام) بمحضر الصحابة.
فإذا ثبت أن المراد به الأولى بالتصرف فالمراد به أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) لا غير، وذلك للإجماع المركّب الدال على أن الآية محصورة بشخص واحد نزلت بحقه وهو الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام)؛ لدلالة الأخبار المتواترة من العامة والخاصة على نزوله فيه‏ (عليه السَّلام).
ولو قيل إن الولي مشترك معنوي موضوع للقائم بالأمر أي الذي له سلطان على المولى عليه ولو في الجملة، لأجبنا بنعم فيكون مشتقاً من الولاية بمعنى السلطان، ومنه ولي المرأة والصبي والرعية أي القائم بأمورهم، وله سلطان عليهم في الجملة، ومنه أيضاً الولي بمعنى الصديق والمحب فإن للصديق ولاية وسلطاناً في الجملة على صديقه، وقياماً بأموره، وكذا الناصر بالنسبة إلى المنصور، والحليف بالنسبة إلى حليفه، والجار بالنسبة إلى جاره، إلى غير ذلك من معاني لفظ الولي.
فحينئذٍ يكون معنى الآية إنما القائم بأموركم هو اللَّه ورسوله وأمير المؤمنين، ولا شك أن ولاية اللَّه تعالى عامة في ذاتها بقرينة الحكمة، وكذا ولاية النبيّ والوصي فيكون الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام) هو القائم بأمور المسلمين والسلطان عليهم والإمام لهم.
ولو سلّم تعدد المعاني واشتراك الولي بينها معنىً فلا ريب أنّ المناسب لإنزال الآية في مقام التصديق أن يكون المراد بالولي هو القائم بالأمور لا الناصر، إذ أي عاقل يتصور أن إسراع اللَّه سبحانه بذكر فضيلة التصدق واهتمامه ببيانها بهذا البيان العجيب لا يفيد إلاّ مجرد بيان أمر ضروري هو نصرة الإمام عليّ للمؤمنين.
ولو سلّم أنّ المراد الناصر، فحصر الناصر باللَّه ورسوله والإمام عليّ‏ (عليه السَّلام) لا يصحّ إلا بلحاظ إحدى جهتين:
 الأولى: إنّ نصرتهم للمؤمنين مشتملة على القيام والتصرف بأمورهم، وحينئذٍ يرجع إلى المعنى المطلوب.
 الثانية: أن تكون نصرة غيرهم للمؤمنين كلا نصرة بالنسبة إلى نصرتهم، وحينئذٍ يتم المطلوب أيضاً، إذ إنّ لوازم الإمامة النصرة الكاملة للمؤمنين، لا سيّما وقد حكم اللَّه عزّ وجلّ بأنها في قرن نصرته ونصرة رسوله.
فعلى هذا الأساس فإن نصرة اللَّه تعالى لعباده المؤمنين بأن أخرجهم من الظلمات إلى النور بإرسال الأنبياء والرسل والأولياء ليبيّنوا لهم ما ينفعهم وما يضرهم فبذا يكونوا قد نصروهم بهدايتهم التشريعية والتكوينية لهم، فنصرة النبيّ لهم بأن ينصّب عليهم خليفة لا أن يتركهم هملاً بلا راعٍ يتناحرون ويتقاتلون من أجل تنصيب الخليفة، كما أن نصرة الولي لهم إنما تكون ببسط معارفه وأحكامه وإنفاذ أمره والأخذ منه لا أنْ يحبسوه في داره يحصون عليه أنفاسه، بل يعتدون عليه وزوجه فيضربونها ويجهضونها ويكسرون ضلعها، ويأخذونه مكبّلاً بحمائل سيفه ليبايع، فأي نصرة حينئذٍ منه للمؤمنين وهو بهذه الحال؟! وهل من النصرة أنْ يكون‏ (عليه السَّلام) منكسر البال والخاطر يصيح ويبكي يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني؟!!
أم أن النصرة تستدعي أن يكون ذا أنصار يجاهدون بين يديه، يذبّون عنه الضيم ويدفعون عنه الأذى، ويبسطون أفكاره وأحكامه ومعارفه!!
 وبالجملة: قد دلت الآية الكريمة على انحصار الولاية باللَّه وبرسوله وأمير المؤمنين بأي معنى فُسرت به الآية، وأن ولايتهم من سنخ واحد، فلا بدّ أن يكون أمير المؤمنين ممتازاً على الناس جميعاً بما لا يحيط به وصف الواصفين، فلا يليق إلا أن يكون إماماً لهم ونائباً عن اللَّه تعالى عليهم جميعاً، لأن معنى نصرة اللَّه ونصرة رسوله ونصرة أوليائه إنما هو التدخل في خصوصيات العباد والقيمومة على تصرفاتهم وشؤون حياتهم، وليس هناك معنى غير هذا المعنى للنصرة، فلتذهب تأويلات العامة العمياء أدراج الرياح أمام نصرة اللَّه ورسوله لوليه الأعظم عليّ‏  بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام).
ويشهد لإرادة الإمامة من هذه الآية:
إن اللَّه تعالى نفى أن يكون لنا وليٌّ غير اللَّه وغير رسوله والذين آمنوا بلفظة «إنَّما» ولو كان المراد به الموالاة في الدين لما خص بها المذكورين، لأن الموالاة في الدين عامة في المؤمنين كلهم، قال تعالى:وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ويشهد لما قلنا: أنّ لفظة «إنما» تفيد التخصيص، لأن القائل إذا قال إنما لك عندي درهم، فُهم منه نفي ما زاد عليه، وقام مقام قوله: ليس لك عندي إلاّ درهم. ولذلك يقولون: «إنما النحاة، المدققون البصريون» ويريدون نفي التدقيق عن غيرهم، ومثله قولهم: «إنما السخاء سخاء حاتم» يريدون نفي السخاء عن غيره، قال الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى                وإنّما العزة للكاثر
أراد نفي العزة عمّن ليس بكاثر، ويدل أيضاً على أن الولاية في الآية خاصة بأمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) أنه قال «وليكم» فخاطب به جميع المؤمنين ودخل فيه النبيّ وغيره، ثم قال «ورسوله» فأخرج النبيّ من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته، فلما قال «والذين آمنوا» وجب أيضاً أن يكون الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية وإلاّ أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه، وأدى إلى أن يكون كل واحد منهم وليّ نفسه، وذلك محال.
فإذا ثبت أن المراد بها في الآية هو ولاية التصرف، فيثبت أن أمير المؤمنين هو المخصوص بها وذلك لأمور:
 الأول: أن كل من قال إن معنى الولي في الآية معنى الأولى بالتصرف قال إن الإمام عليّاً هو المخصوص به، ومن خالف في اختصاص الآية يجعلها عامة في المؤمنين وقد تقدم بطلانه.
 الثاني: إن الفريقين (الخاصة والعامة) رووا أن الآية نزلت فيه‏ (عليه السَّلام) خاصة.
 الثالث: إن اللَّه وصف الذين آمنوا بصفات ليست حاصلة إلاّ فيه، لأنه قال وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ فبيّن أن المعنى بالآية هو الذي أتى الزكاة في حال الركوع، وأجمعت الأمة على أنه لم يؤت الزكاة في حال الركوع غير أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام).
وبما أن الآية واضحة الدلالة في ولاية أمير المؤمنين، لذا كانت بدرجة من الوضوح حيث استدعى الأمر أن ينظم الشاعر حسان‏  بن ثابت الذي عاصر النبيّ واصطحبه قصيدة تثبت ما فهمه المسلمون آنذاك من أن الآية نزلت بحقه‏ (عليه السَّلام).
قال حسان:
أبا حسن تفديـــــك نفسي ومهجتي                    وكل بطي‏ء في الهدى ومسارع
أيذهب مدحــــي والمحبين ضائعــــاً                 وما المدح في ذات الإله بضائــع
فأنت الذي أعطيت إذْ أنت راكع                  فدتك نفوس القوم يا خير راكع
بخاتمك الميمون يــــــا خيـــر سيّــد                  ويا خير شاركٍ ثم يا خير بايع
فأنـــــزل فيـــــك اللَّه ولايــــــــــــــة                   وبيّنها في محكمات الشرائـــــــع
 شبهات وردود اعترض على الفهم الإسلامي العام للآية جماعة من المتعصبين النواصب وعلى رأسهم الفخر الرازي في التفسير الكبير، ونحن هنا نسوق شبهاتهم ثم نردُّها على نحورهم.
 الشبهة الأولى:
صحيح أن الواو حالية، لكنّ الركوع محمول على الخشوع والخضوع أي: يعملون ذلك حال الخشوع والإخبات والتواضع اللَّه تعالى إذا صلوا وإذا زكوا. فعلى هذا يكون معنى الآية: أنه ليس أولياؤكم اليهود والنصارى والمنافقين بل أولياؤكم اللَّه ورسوله والمؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم في جميع هذه الأحوال خاضعون لساحة الربوبية بالسمع والطاعة، وأنهم يؤتون الزكاة وهم فقراء معسرون.
 والجواب:
1ـ  إنّ الركوع وإن كان في اللغة بمعنى مطلق الخشوع والخضوع لكنّه صار في الشرع اسماً لركوع الصلاة، كما أنّ الصلاة كان معناها في اللغة مطلق الدعاء ولكنها صارت في عرف المتشرعة والشرع حقيقةً للصلاة ذات الأركان المخصوصة، فقوله تعالى: وهم راكعون لا يصح أنْ يراد به «وهم خاضعون» لأن الحقيقة الشرعية والعرفية متقدمة على الحقيقة اللغوية، ولم يستعمل في القرآن إلاّ في ذلك المعنى كقوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ  وقوله تعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ وغيرهما من الآيات الكثيرة في القرآن المشتملة على لفظ الركوع الذي هو ركوع الصلاة لا الخشوع والتواضع، بل لا يُصار إلى المعنى الثاني  أعني الخشوع  إلا بقرينة تُعيّن ذلك، فيطلق عليه اسم الركوع تشبيهاً ومجازاً، لأن فيه ضرباً من الانخفاض، ويدل على ما قلنا نص أهل اللغة عليه، قال ابن منظور:
ركع ركعاً وركوعاً: طأطأ رأسه وكل قومة يتلوها الركوع والسجدتان من الصلوات فهي ركعة، قال الشاعر:
وأُفْلِتَ حاجبٌ فوْتَ العوالي             على شقّاء تركعُ في الظِّراب
فالراكع: المنحني، وكلُّ شي‏ء ينكب لوجهه فتمسُّ ركبته الأرض أو لا تمسها بعد أن يخفض رأسه فهو راكع. وركع الشيخ: انحنى من الكبر.
مضافاً إلى دلالة الروايات المتكاثرة من طرق العامة والخاصة على أن الآية نزلت في أمير المؤمنين عليّ‏ (عليه السَّلام) لمّا تصدّق بخاتمه وهو في ركوع الصلاة.
2 ـ إنّ تفسير الزكاة بالخضوع والخشوع إخراج لها عن معناها اللغوي الذي قامت الأدلة الروائية المتواترة على اختصاصها بمولى الثقلين عليّ‏  بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام)، والخروج عن مورد النص إلى غيره يعدُّ اجتهاداً في مقابله وهو الكفر بعينه قال تعالى:وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ.
3 ـ إن صرف الركوع عن معناه المقرر بعرف الشرع والمتشرعة، يفكّكُ الغرض الذي من أجله تعرضت له الآية الكريمة وهو ولاية اللَّه التكوينية والتشريعية، وولاية رسوله ومن يليه ممن فنى في الذات الإلهية المقدّسة، فإن هؤلاء هم الأولياء الحقيقيون للمؤمنين، فالقول بأن الركوع هو الخشوع وأن الراكعون هم الخاشعون يخلُّ بوحدة سياق مفردات الآية الدالة على ولاية اللَّه ورسوله التكوينية والتشريعية، لأن دلالة السياق تدل على أن هذه الولاية ولاية واحدة هي للَّه سبحانه بالأصالة ولرسوله والذين آمنوا بالتبع وبإذن منه تعالى.
ولو كانت الولاية المنسوبة إلى اللَّه تعالى في الآية غير المنسوبة إلى الذين آمنوا، كان الأنسب أن تفرد ولاية أخرى للمؤمنين بالذكر رفعاً للالتباس الواقع في فهم مراد الآية عند العامة، فعدم إفراده ولاية أخرى للمؤمنين بل إنه تعالى عطف ولايتهم على ولايته وولاية رسوله كل ذلك فيه دلالة قطعية أن هؤلاء الأولياء ليسوا أناساً عاديين بل إن طاعتهم طاعة اللَّه كما في قوله تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فطاعته‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وطاعة أولي الأمر هي نفس طاعة اللَّه، فكما أن للأمة الطاعة لرسول اللَّه إطاعة مطلقة ليسوقهم إلى اللَّه تعالى وليحكم فيهم بأمر اللَّه، ويقضي عليهم في جميع شؤونهم، كذا للأمة الانقياد إلى ولايته المطلقة التي ترجع بذاتها إلى ولاية اللَّه سبحانه، ونعني بذلك أن له‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) التقدم عليهم بالطاعة والولاية، وكذا الذين آمنوا الذين طاعتهم مطلقة على العباد، فلا يمكن الفصل بين طاعة أولي الأمر وبين طاعة اللَّه ورسوله لأن الطاعات الثلاث مقترنة فيما بينها ولا يجوز التفكيك بين طاعة وأخرى.
وعلى هذا الأساس فإن وحدة سياق الطاعات والولايات تقتضي أن يكون المؤمنون في آية الولاية هم جماعة مخصوصون مميزون بنزاهتهم وطهارتهم وقداستهم، وهذه النزاهة والطهارة المطلقة لا يتملكها المؤمنون جميعاً بل أفراد معينون، فصرف الراكعين إلى الخاشعين يعني أنهم صاروا كلهم  أي المؤمنين جميعاً  ممن انتقلت إليهم الولايتان: التشريعية والتكوينية، وهو خلاف الفرض والوجدان، كما أن الفصل بين الذين آمنوا الخاشعين  كما فعل العامة  وبين ولاية اللَّه المطلقة وولاية رسوله كذلك يعتبر فصلاً من دليل وهو غير جائز عدا كونه مفقوداً.
4ـ  إنّ التدبر واستيفاء النظر في الآية وما يحفُّها من الآيات يعطي خلاف ما ذكروه  من أن المراد بالولاية النصرة وأن الراكعين هم المصلون الخاشعون  وأول ما يفسد من كلامهم ما ذكروه من أمر وحدة سياق الآيات، وأن غرض الآيات التعرّض لأمر ولاية النصرة، وتمييز الحق من غيره، فإن السورة وإن كان المسلّم نزولها في آخر عهد رسول اللَّه في حجة الوداع، لكنّ من المسلّم أيضاً أن جميع آياتها لم تنزل دفعة واحدة، ففي خلالها آيات لا شبهة في نزولها قبل ذلك، ومضامينها تشهد بذلك، وما ورد فيها من أسباب النزول يؤيده، فليس مجرد وقوع الآية بعد الآية أو قبل الآية يدل على وحدة السياق، ولا أن بعض المناسبة بين آية وآية يدل على نزولهما معاً دفعة واحدة أو اتحادهما في السياق.
فالآيات الواردة في سورة واحدة أو الآيات المتعاقبة، ليست دائماً ذات مفهوم مترابط، كما لا تشير دائماً إلى معنى واحد، ولذلك يحصل كثيراً أن تروى لآيتين متعاقبتين حادثتان مختلفتان أو سببان للنزول، وتكون النتيجة أن ينفصل مسير واتجاه كل آية  لصلتها بحادثة خاصة  عن مسير الآية التالية لها لاختلاف الحادثة التي نزلت بشأنها، وبما أن آية الولاية بدلالة سبب نزولها جاءت في شأن تصدُّق الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام) أثناء الركوع، والآيات السابقة واللاحقة لها نزلت في أحداث أخرى، لذلك لا يمكن الاعتماد على مسألة ترابط المفاهيم في الآيات، ولكن هناك نوع من التناسب بين الآية  موضوع البحث  والآيات السابقة واللاحقة لها، لأن الآيات الأخرى تضمنت الحديث عن الولاية بمعنى النصرة والإعانة، بينما الآية المذكورة تحدثت عن الولاية بمعنى الزعامة والإشراف والتصرف، وبديهي أن الوليّ والزعيم والمشرف والمتصرف في أمور جماعة معينة، يكون في نفس الوقت حامياً وناصراً وصديقاً ومحباً لجماعته، أي أن مسألة النصرة والحماية تعتبر من مستلزمات وشؤون الولاية المطلقة. فظهر بما تقدم «أن آية الولاية والآية التي بعدها مباشرة لا تشاركان السياق السابق عليهما لو فرض أنه متعرض لحال ولاية النصرة، ولا يغرّنك قوله تعالى في آخر الآية )فإن حزب اللَّه هم الغالبون( فإن الغلبة كما تناسب الولاية بمعنى النصرة، كذلك تناسب ولاية التصرف وكذا ولاية المحبة والمودة، والغلبة الدينية التي هي آخر بغية أهل الدين تتحصل باتصال المؤمنين باللَّه ورسوله بأي وسيلة تمت وحصلت».
 الشبهة الثانية:
إنّ المراد من والذين آمنوا في الآية عامة المؤمنين، واستشهد أصحاب هذه الشبهة بما روي أنّ عبادة  بن الصامت لمّا تبرأ من اليهود وقال أنا بري‏ء إلى اللَّه تعالى من حلف قريظة والنضير، وأتولّى اللَّه ورسوله، نزلت هذه الآية على وفق قوله، وروي أيضاً أن عبد اللَّه‏ بن سلام قال يا رسول اللَّه، إن قومنا قد هجرونا، وأقسموا أن لا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل، فنزلت هذه الآية، فقال رضينا باللَّه ورسوله وبالمؤمنين أولياء، فعلى هذا تكون الآية عامة في حق كل المؤمنين، فكل من كان مؤمناً فهو ولي كل المؤمنين.
 والجواب:
(1)لقد أشارت النصوص من الفريقين إلى أنّ الآية نزلت في حق أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) على الصفة المذكورة، فبطل ما يروى في خلاف ذلك، فما ذُكر من احتمال إرادة عموم المؤمنين ضعيفٌ لا يعوّل عليه، ولا يرجع إلى مستند ولا يعارض الأخبار الكثيرة الدالة على نزولها في حق الإمام علي‏ (عليه السَّلام).
 (2) إن الاستشهاد بخبر عبادة بن الصامت وعبدفاللَّه‏  بن سلام على كون المراد من «الذين آمنوا» عامة المؤمنين لا وجه له، لكون الآية دلت  بحسب مورد نزولها كما يدّعون بهذين الرجلين  على أن اللَّه تعالى قد عوّضهم من محالفة اليهود، ولاية اللَّه وولاية رسوله وولاية الذين آمنوا، وبعبارة أخرى: إن اللَّه جعل لهم بدل هجر قومهم إياهم ولاية من ذكرت الآية المباركة، سواء أريد بالذين آمنوا العموم أو الخصوص، فإذا كان هناك ما يدل على الخصوص لم يكن فيه منافاة لهذا الخبر.
والذي يكشف عمّا قلنا: أنه روي أنها لما نزلت خرج النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من البيت، فقال لبعض أصحابه هل أعطى أحد سائلاً شيئاً؟ فقالوا: نعم يا رسول اللَّه قد أعطى عليّ‏  بن أبي طالب السائل خاتمه وهو راكع، فقال النبيُّ: اللَّه أكبر قد أنزل اللَّه فيه قرآناً، ثم تلا الآية إلى آخرها، وفي ذلك بطلان ما قالوه.
وروى عطاء، عن ابن عبّاس قال نزلت  الآية  في علي بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام).
وروي عن عبد اللَّه بن سلام قال لما نزلت هذه الآية، قلت: يا رسول اللَّه أنا رأيت عليّاً تصدّق بخاتمه على محتاج وهو راكع، فنحن نتولاه.
وروي عن أبي ذر رضي اللَّه عنه قال
صليت مع رسول اللَّه يوماً صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السائل يده إلى السماء وقال اللهم اشهد أني سألت في مسجد الرسول فما أعطاني أحد شيئاً، وعليّ‏ (عليه السَّلام) كان راكعاً، فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم بمرأى النبيّ، فقال اللهم إن أخي موسى سألك فقال رب اشرح لي صدري إلى قوله: واشركه في أمري فأنزلت قرآناً ناطقاً سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً اللهم وأنا محمّد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً أشدد به ظهري، قال أبو ذر: فواللَّه ما أتم رسول اللَّه هذه الكلمة حتى نزل جبرائيل فقال يا محمّد اقرأ إنما وليكم اللَّه ورسوله والذين آمنوا....
لقد أجمع الرواة والمؤرخون والإخباريون  على حد تعبير الآلوسي  على أنها نزلت في علي كرّم اللَّه وجهه ، فلا يناهض خبر أو خبران ذاك الكم الوفير من الروايات الدالة على أن الآية نزلت في حق أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام)، إذ كيف يعارض خبر واحد أخباراً متواترة، ولو قدّم أحد الخبر الواحد على المتواتر، فليعلم أنه لا يشم رائحة الفقاهة والاستنباط.
(3) لا يمكن أن يراد بـ«الذين آمنوا» في منطوقها جميع المؤمنين، لأن المخاطبين بقوله تعالى: وليُّكم هم المؤمنون، فلو أرادهم جميعاً لزم أن يكون جميع المؤمنين أولياء أنفسهم، وبطلانه أوضح من أن يختلف فيه اثنان من أهل اللسان، وذلك لأنه لو أراد تعالى جميع المؤمنين لكان المعنى واللفظ هكذا (إنما وليُّ المؤمنين اللَّه ورسوله والمؤمنون) فيكون من إضافة الشي‏ء إلى نفسه، وهو مستحيل عند ذوي العقول، فلا يجوز حمل كتاب اللَّه تعالى عليه إطلاقاً.
هذا مضافاً إلى أنه يلزم أن يكون من شرط إيمان المؤمنين أجمعين أن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وهم راكعون كما يدل عليه وصفهم في الآية، وهو معلوم بضرورة الدين بطلانه.
(4)  إن جعل المؤمنين في الآية على قسمين: ناصرين ومنصورين، يلغي حكم الحصر في أداة «إنّما» حيث إن مقتضى الآية بحكم أداة الحصر هو اختصاص الولاية لهؤلاء الثلاثة، وهو إنّما يتم لو جعل مراد الآية هو «الأولى بالتصرف»، بخلاف ما لو أريد بها النصرة، ضرورة عدم اختصاص النصرة بهم بل يعمهم وغيرهم من المؤمنين غير الموصوفين بالصفة المذكورة لحصولها منهم ومن غيرهم، وحينئذٍ فلا يكون للحصر فائدة، مع أن أداة الحصر تنفي غير مَنْ وصفتهم الآية بإيتاء الزكاة حال كونهم راكعين، وهذا معنى قولنا: إن الولاية بمعنى النصرة عامة من حيث عدم اختصاصها بالمؤمنين المتصفين بإيتاء الزكاة في حال الركوع، بينما الآية  موضوع البحث  تهدف إلى بيان حكم خاص بشخص واحد.
 الشبهة الثالثة:
ذكر الرازي أن اللائق بالإمام عليّ‏ (عليه السَّلام) أن يكون مستغرق القلب بذكر اللَّه حال ما يكون في الصلاة، والظاهر أنّ من كان كذلك فإنه لا يتفرّغ لإستماع كلام الغير وفهمه ، وأكّد هذا الإيراد أيضاً شمس الدين الهروي الحنفي حيث قال إنكم)والخطاب للشيعة( تقولون أن علياً (عليه السَّلام) في حال صلاته في غاية ما يكون من الخشوع والخضوع واستغراق جميع حواسه وقواه وتوجهها شطر الحق، حتى أنكم تبالغون وتقولون كان إذا أُريد إخراج السهام والنصول من جسمه الواقعة فيه وقت الحرب، تركوه إلى وقت صلاته فيخرجونها منه وهو لا يحس بذلك لاستغراق نفسه وتوجهها نحو الحق، فكيف مع ذلك أحسّ بالسائل حتى أعطاه خاتمه في حال صلاته.
 والجواب:
(1)  قال الشاعر:
يعطي ويمنع لا تلهيه سكرتُه                  عند النديم ولا يلهو عن الكاسِ
أطاعه سكره حتى تمكّن من                  فعل الصحاة فهذا أفضل الناسِ
وحاصل الجواب:
إن استغراق القلب بالذكر في الصلاة، إنما ينافي التوجّه إلى الأمور الدنيوية الشاغلة عن الذكر، وإعطاء الخاتم للفقير المستحق ابتغاء لمرضاته سبحانه والتوجه إلى سؤاله، لا ينافي الاستغراق بل هو عين الذكر، وتوجه الأمير (عليه السَّلام) إلى الفقر لا يلزم منه التفاتة إلى غير الحق، لأنه فعل فعلاً تعود نهايته إلى الحق، فكان توجهه في الصلاة يعدُّ عبادة ضمن عبادة، وكان استغراقه باللَّه تعالى والتفاته إلى الفقير كالشارب الذي فعل حال سكرته فعلاً موافقاً لفعل الصحاة، ولم يلهه ذلك عن نديمه ولا عن كأسه، ولا خرج ذلك عن سكرته.
(2)  لو كان مطلق التوجه إلى الغير منافياً للاستغراق لم يتصوّر ذلك في حق النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) مع أنه قد حصل ذلك في حقه.
فقد روى البخاري الجم الغفير من ذلك منها ما عن ابن عبّاس قال
قام النبيُّ يصلي، فقمت إلى جنبه، فوضع رسول اللَّه  وهو في الصلاة  يده اليمنى في رأسي، وأخذ بأُذني اليمنى يفتلها بيده.
ومنها ما ورد عن علقمة عن عبدفاللَّه قال كنّا نسلّم على النبيّ وهو في الصلاة فيرُدُّ علينا.
وروي عن عائشة قالت: كنتُ أمدُّ رجلي في قبلة النبيّ وهو يصلّي، فإذا سجد غمزني، فرفعتها، فإذا قام مددتها.
وعن أبي قتادة الأنصاري أن رسول اللَّه كان يصلّي وهو حاملٌ أُمامة بنت زينب بنت رسول اللَّه... فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها.
وعن ابن عبّاس قال بتُّ عند خالتي، فقام النبيُّ يصلّي من الليل فقمت أصلي معه، فقمت عن يساره، فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه.
وعن أبي قتادة عن النبيّ قال إني لأقوم في الصلاة أريد أن أُطوّل فيها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشقّ على أمّه.
وعن أبي هريرة أن رسول اللَّه قال هل ترون قبلتي ها هنا؟ واللَّه ما يخفى عليَّ ركوعكم ولا خشوعكم وإني لأراكم وراء ظهري.
هذا وقد استدل أبو حنيفة على عدم جواز رد جواب السلام في الصلاة بأن رسول اللَّه دخل مسجد بني عمرو  بن عوف يصلي ودخل معه صهيب، فدخل معه رجال من الأنصار يسلمون عليه، فسألت صهيباً كيف كان يصنع إذا سلم عليه؟ قال يشير بيده.
ولو كان استماع كلام الغير مطلقاً منافياً للاستغراق كيف يستمع السلام ويشير بيده ويحمل طفل أُمامة بنت زينب، ويغمز رجل عائشة إلخ.. هذا مضافاً إلى أنه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أمر بقتل الأسودين في الصلاة: الحيّة والعقرب وكذا في حال الإحرام وغيره.
(3)  أنه‏ (عليه السَّلام) لما كان بكلّيته متوجهاً إلى اللَّه تعالى، مقبلاً إليه معرضاً عما سواه خالصاً في العبادة، نبهه اللَّه سبحانه بالإلهام والإلقاء في الروع في هذه العطية الكريمة، وذلك لعموم إفضاله جلّ شأنه على عباده فكيف بالمؤمن السائل في بيته أعني المسجد النبوي.
فلا غرو أن يلقي في قلب وليه إعانة المسكين المفتاق، فالتصدّق طاعة في طاعة، ومن الضروري التأكيد على أن الذوبان في التوجه إلى اللَّه تعالى ليس معناه أن يفقد الإنسان الإحساس بنفسه، ولا أن يكون بدون إرادة، بل الإنسان بإرادته يصرف عن نفسه التفكير في أي شي‏ء لا صلة له باللَّه تعالى.
 الشبهة الرابعة:
أن دفع الخاتم في الصلاة للفقير عمل كثير، واللائق بحال عليّ‏ (عليه السَّلام) أن لا يفعل ذلك.
 جوابها:
1  إننا لا نسلَّم كون خلع الخاتم عملاً كثيراً لأن الخاتم كان مرجاً  في خنصره‏ (عليه السَّلام)، فلم يتكلّف خلعه كثير عمل تفسد بمثله صلاته.
2  لا يفسد  عند فقهاء الإمامية  الصلاة إلاّ العمل الكثير الماحي لصورة الصلاة، ومن هنا خلع الخاتم غير ماحٍ لصورتها بل هو أهون من قتل الحية والعقرب وهو في الصلاة، وقد اتفق على ذلك كل فرق المسلمين.
 الشبهة الخامسة:
وهذه الشبهة أيضاً للرازي قال إن المشهور أنه‏ (عليه السَّلام) كان فقيراً ولم يكن له مال تجب الزكاة فيه..».
فكأنّ الرازي حمل الزكاة على الصدقة الواجبة المعروفة عند المتشرعة، وإطلاقها بنظره  على الصدقة المندوبة خلاف الظاهر.
 والجواب:
1 ـ يشهد التاريخ على أنه‏ (عليه السَّلام) كان يمتلك المال الوفير الذي حصل عليه من كدّ يمينه وعرق جبينه فتصدّق به في سبيل اللَّه تعالى، وقد نقل لنا رواة التاريخ بأسانيد صحيحة أنه‏ (عليه السَّلام) أعتق وحرّر الف رقبة من الرقيق، كان قد اشتراهم من ماله الخاص الذي كان حصيلة كدِّه ومعاناته، مضافاً إلى أنه‏ (عليه السَّلام) كان يحصل على حصته من غنائم الحرب، هذا بالغض عن أن تحصيل المال سهل عليه عبر الكرامة إذ من البعيد جداً أن يبخل المولى عزّ وجلّ على عبده الإمام عليّ‏  بن أبي طالب الذي انقطع إلى الذات الأحدية انقطاعاً تاماً.
وعلى كل حال فإنّ ما امتلكه‏ (عليه السَّلام) من المال البسيط الذي ادخره لحاجات نفسه لا زكاة فيه، وعليه فلا يمنع العقل والشرع بأنْ يمتلك الإمام علي‏ (عليه السَّلام) خاتماً لا سيّما وأن تزيين الكف بالخاتم من سنن الأنبياء والمرسلين وهل يترك أمير المؤمنين هذا الشي‏ء المرغوب فيه عند سيّد المرسلين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)؟ كلا وألف كلا، فلا مانع إذن أنْ يتصدّق الأمير (عليه السَّلام) بخاتمه أُسوة بغيره من الأنبياء والأولياء والمؤمنين حتى الفقراء منهم حيث لا يبخلون على أنفسهم بخاتم يلبسونه التماس الثواب والبركة.
2ـ  إن الزكاة المصطلحة في عرف المتشرعة إنما هي اصطلاح مستحدث، والقرآن الكريم قد استعملها بمعناها اللغوي العام جرياً على ما يقتضيه عرف المحاورة عند أهل اللغة وغيرهم.
فالزكاة  كما صرّح اللغويون  بمعنى الصدقة، لأن الزكاة وإنْ اشتُهرت في الشرع بأنها الصدقة الواجبة، لكنها تطلق على المستحبة أيضاً بكثرة، وقد ورد في القرآن العظيم ما يوضّح هذا المعنى قبل أنْ تشرّع الزكاة المصطلحة عندنا، فقال تعالىوَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ.
ولا شك في أن المراد بالزكاة هنا الإنفاق لوجه اللَّه تعالى، وهو الزكاة المستحبة، وأكثر ما وردت بهذا المعنى في السور المكية، لأن وجوب الزكاة كان قد شُرّع بعد هجرة الرسول الأكرم‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى المدينة كما أشارت إليه الآيات التالية:
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ.
وإطلاق الزكاة على الصدقة الواجبة في الآيات المدنية لا يلغي استعمالها في الصدقات المندوبة لكون آية الولاية مدنية، وذلك لصحة إطلاقها على الزكاة المندوبة تماماً كصحة إطلاقها على الواجبة، وكونه فقيراً لا مال له حتى يجب فيه الزكاة، لا ينافي إعطاء الزكاة تطوعاً، قال شاعر العقيدة الفرزدق رضي اللَّه عنه وأرضاه:
لا يقبض العسر بسطاً من أكفهم             سيّان ذلك إنْ أثْروا وإن عدموا
كلتا يديه غياث عمَّ نفعهمــــــــــــا             يستو كفان ولا يعروهما العدم..
تنبيه:
لا يخفى أنّ فقره‏ (عليه السَّلام) لم يكن من عجزه وعدم تمكّنه من جمع المال بل إنما هو من كثرة جوده وسخائه، وكفى بذلك أنه كانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام ونحوه ومع هذا لم يخلّف ميراثاً ولا درهماً ولا ديناراً، وشاهد صدق على هذا قصة تصدّقه بالخاتم‏ (عليه السَّلام).
 الشبهة السادسة:

إن تعجُّل الإمام‏ (عليه السَّلام) في إخراج الزكاة الواجبة في الصلاة يتنافى تحديده مع الصلاة، وهذا لا يصح في حقه، فيستتبع ذلك الطعن في أصل قضية التصدق في الصلاة.
 والجواب:
إن العرف هو الذي يحدّد مفهوم الإسراع الواجب في أداء الزكاة، ولا يتنافى هذا التحديد مع الصلاة، أي لا فرق في الإخراج سواء أكان وقت الأداء خارج وقت الصلاة أم أثناءها.
 وبعبارة أخرى: إن الشرع لم يقيّد لدفع الزكاة زمناً محدداً بعينه، بل أطلقه سواء كان أداء الدفع أثناء الصلاة أو خارجها، فالإطلاق في أداء الدفع يعني أن العرف هو الذي يحدّد مفهوم الإسراع الواجب في أداء الزكاة.
كل هذا مبنيٌ على أن الزكاة في الآية بمعنى الصدقة الواجبة، وقد عرفت عدم انطباقها عليها، وذلك لأن عدم وجوب الزكاة عليه لم يكن من أجل عدم تملّكه للنصاب، بل لأن المانع من تعلق الوجوب هو أنه‏ (عليه السَّلام) لم يكن حريصاً على جمع المال حتى يحول عليه الحول، فكان الجود والسخاء أو الزهد يمنع من الإدخار، ولأن اللازم على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيّغ بالفقير فقره.
أما على مبنى أن الزكاة بمعنى الصدقة المستحبة  وهو الصواب  فلا مجال لهذا الإشكال قطعاً فتأمل.
 الشبهة السابعة:
إن تفسير المسلمين الشيعة للآية موضوع البحث لا يتناسب أو لا يتلاءم مع الآيات الواردة قبل وبعد هذه الآية، لأن تلك الآيات جاءت فيها كلمة «الولاية» بمعنى الصداقة أو المحبة والنصرة، فقوله تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء لا يراد منه ولاية التصرف في الأرواح والأموال لأن بطلان هذا كالمعلوم بالضرورة، بل المراد لا تتخذوا اليهود والنصارى أحباباً وأنصاراً فلا تخالطوهم ولا تعاضدوهم ثم لمّا بالغ في النهي عن ذلك قال إنما وليكم اللَّه ورسوله والذين آمنوا.. والظاهر  كما يدّعي الرازي أن الولاية المأمور بها هيهنا هي المنهي عنها فيما قبل، ولما كانت الولاية المنهي عنها فيما قبل هي الولاية بمعنى النصرة كانت الولاية المأمور بها هي الولاية بمعنى النصرة، ولا يمكن أن يكون بمعنى الإمام، لأن ذلك يكون إلقاء الكلام الأجنبي فيما بين كلامين مسوقين لغرض واحد، وذلك يكون في غاية الركاكة والسقوط، ويجب تنزيه كلام اللَّه تعالى عنه.
 والجواب:
1 ـ ما استدل به الرازي على كون الآية بمعنى النصرة لوحدة سياق الآية السابقة واللاحقة على آية الولاية، وأنه لولا ذلك للزم إلقاء الكلام الأجنبي بين كلامين مسوقين لغرض واحد، هذا الكلام دونه خرط القتاد، وذلك بمنع الملازمة المذكورة، إذ إنّ الآيات القرآنية بسبب نزولها بصورة تدريجية، وبحسب الوقائع المختلفة تكون دائماً ذات صلة بالأحداث التي نزلت الآيات في شأنها، أي إنَّ الآيات الواردة في سورة واحدة أو الآيات المتعاقبة، ليست دائماً ذات مفهوم مترابط، كما لا تشير دائماً إلى معنى واحد، ولذلك يحصل كثيراً أن تروى لآيتين متعاقبتين حادثتان مختلفتان أو سببان للنزول، وتكون النتيجة أن ينفصل مسير واتجاه كل آية لصلتها بحادثة خاصة عن مسير الآية التالية لها لاختلاف الحادثة التي نزلت بشأنها، وبما أن آية الولاية بدلالة سبب نزولها جاءت في شأن تصدق أمير المؤمنين عليّ‏ (عليه السَّلام) أثناء الركوع، أما الآيات السابقة واللاحقة لها فقد نزلت في أحداث أخرى، لذلك لا يمكن الاعتماد هنا كثيراً على مسألة ترابط المفاهيم في الآيات ولكن هناك نوع من التناسب بين الآية  موضوع البحث  والآيات السابقة واللاحقة لها، لأن الآيات الأخرى تضمنت الحديث عن الولاية بمعنى النصرة والإعانة، بينما آية الولاية تحدثت عن الولاية بمعنى الزعامة والإشراف والتصرف، وبديهي أن الولي والزعيم والمشرف والمتصرف في أمور جماعة معينة، يكون في نفس الوقت حامياً وناصراً وصديقاً ومحباً لجماعته، أي أن مسألة النصرة والحماية تعتبر من مستلزمات وشؤون الولاية المطلقة.
 وبعبارة أخرى:
إن الولاية بمعنى النصرة شأن من شؤون الولاية المطلقة، فحيث نهى سبحانه عن اتخاذ الكفار أولياء أي أنصاراً أثبت الولاية المطلقة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين الموصوفين، ومن المعلوم أن الولاية المطلقة أي التصرف في أمور المؤمنين على وجه الإطلاق شاملة للتصرف بالنصرة، فعلى ذلك يكون في الآية دلالة على كون اللَّه ورسوله والمؤمنين الموصوفين ناصرين لسائر المؤمنين على وجه الكمال، ولا تكون النصرة إلا بقيام الناصر بأمور المنصور، وهذا هو معنى ولاية التصرف، وبذا يلتئم أجزاء الكلام على أحسن اتساق وانتظام.
2  ـ منع الملازمة الأجنبية الموجبة للركاكة، إذ المجانبة بينها ليست بأزيد من المجانبة بين الشرط والجزاء في قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ.
فعلى تقدير تسليم الركاكة فيكون ذلك اعتراضاً على خليفتهم عثمان الذي جمع القرآن بهذه الصورة، فحرّف الكلم عن مواضعه ولم يرتّب الآيات كما هو حقها.
3 ـ إن توافق الآيات وجريانها على نسق واحد، وكان مقتضياً لحمل الولي هاهنا على الناصر وموجباً لظهوره فيه، إلا أنه إذا امتنع حمله عليه بمقتضى كلمة الحصر والجملة الوصفية الظاهرتين في المعنى الآخر، فلا بدّ من رفع اليد عن ذلك الظهور، وبعبارة أخرى ظهور التناسق  لو سلّمنا جدلاً بحجيته  يوجب حمله على الناصر إلاّ أنه معارض بظهور الحصر والوصف في المعنى الآخر إن لم يكونا نصّين فيه، والثاني أقوى من الأول فيجب المصير إليه.
 الشبهة الثامنة:
قال الرازي: أنه تعالى ذكر المؤمنين الموصوفين في هذه الآية بصيغة الجمع، وحمل ألفاظ الجمع وإن جاز على الواحد على سبيل التعظيم لكنه مجاز لا حقيقة، والأصل حمل الكلام على الحقيقة.
والجواب:
1 ـ إن الأصل في الاستعمال وإنْ كان هو الحقيقة، إذ استخدام صيغة الجمع للدلالة على الواحد يعتبر خلافاً للظاهر ولا يجوز بدون قرينة، إلاّ أنه هنا قد قامت القرائن القطعية من أخبار الفريقين على إرادة المعنى المجازي، فلا بدّ من حمل اللفظ عليه أسوة بغيره من المجازات القرآنية والأحاديث النبوية فأي ضير لو استعمل اللفظ في المعنى المجازي؟!
2 ـ إن الفخر الرازي نفسه فسّر قوله تعالى: ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة بأبي بكر فقال إن المراد من أولي الفضل أبو بكر وكنّى عنه بلفظ الجمع، والواحد إذا كني عنه بلفظ الجمع دلّ على علو شأنه كقوله تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا أعطيناك الكوثر فانظر إلى الشخص الذي كنّاه اللَّه سبحانه مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علو شأنه.
فحمل الجمع على التعظيم بأبي بكر ليس بأولى وأوجب من حمله على مولى الثَّقلين أمير المؤمنين عليّ‏ (عليه السَّلام)، بل لا يُقاس الأوّل بالثاني أبداً.
3 ـ التعبير بصيغة الجمع عن شخصٍ واحدٍ في القرآن الكريم إمّا أن يكون بسبب أهمية موقع هذا الشخص وعظمة دوره الفعّال فكأنه أمة في رجل، وإمّا ليُرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه، ولينبّه على أن سجيّة المؤمنين لا بدّ أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقد الفقراء حتى إنْ لزمهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة لم يؤخروه إلى الفراغ منها.
4 ـ لا يخفى ما في حسن التعبير بلفظ الجمع من اشتماله على التعظيم كما ورد في كثير من آي القرآن ما يدل على تعظيم الذات الإلهية بضمير الجمع.
هذا مع التأكيد على أن كتب الأدب العربي ذخرت بجمل تم التعبير فيها عن المفرد بصيغة الجمع لما يحويه اللفظ من معاني متعددة تضفي عليه سحر البيان وقوة الحجة، والقرآن الكريم استعمل نفس الأسلوب كما في آية المباهلة، حيث وردت كلمة «نساءنا» بصيغة الجمع مع أن الروايات التي ذكرت سبب نزولها أكدت أن المراد من هذه الكلمة هي الصدّيقة الطاهرة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين الزهراء فاطمة (عليها السَّلام) وحدها، وكذلك في كلمة «أنفسنا» في نفس الآية وهي صيغة جمع، في حين لم يحضر من الرجال في واقعة المباهلة مع الرسول غير الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام) وكذلك ما ورد في سورة آل عمرانر 172 قوله تعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً...
وقد ذكر المفسرون أن الآية نزلت بنعيم بن مسعود في واقعة أُحد، فعبرت عن الواحد بالجمع.
وكذا قوله تعالى في نفس السورة آية 52 ... يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فنزلت في عبدفاللَّه‏  بن أبي، فهو القائل يقولون.. وكذا غيرها  من الآيات التي جاءت بصيغة الجمع بينما موارد نزولها هو شخص واحد.
 الشبهة التاسعة:
قال الرازي الناصبيُّ خفضه الله تعالى: إنّا قد بيّنا بالبرهان البيّن أن الآية المتقدمة وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ من أقوى الدلائل على صحة إمامة أبي بكر، فلو دلت هذه الآية على صحة إمامة عليّ لزم التناقض بين الآيتين، وذلك باطل، فوجب القطع بأنّ هذه الآية لا دلالة فيها على أن عليّاً هو الإمام بعد الرسول.
 يَرِدُ عليه:
1 ـ ما ذكره الناصبيُّ تضحك منه الثكلى لأن ما ادعاه خلاف ما اتفقت عليه الأمة، أما الخاصة فلأنهم اتفقوا على أن الآية 54 من سورة المائدة إنما هي إشارة إلى ظهور دولة الإمام المهدي‏ (عليه السَّلام) وعجّل اللَّه تعالى فرجه الشريف المتمثلة بشخصه المبارك المقدّس، وعليه قد دلت الأخبار المتضافرة من طرقنا وطرق العامة كما رواها في غاية المرام، كما أن المراد بالمرتدين هم الناكثون والقاسطون والمارقون، وبقوم يحبهم ويحبونه هم أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) وأصحابه كما في أخبار أُخر.
وأما العامة فلاتفاقهم على أن خلافة أبي بكر كانت مستندة إلى البيعة لا إلى النص، هذا مضافاً إلى أنه لو كانت الآية المذكورة دالة على صحة خلافة أبي بكر فلِمَ لم يستدل بها يوم السقيفة؟!
2 ـ إن ما ادّعاه الناصبيّ خلاف ما رواه العامة من أن المراد بالآية هم قوم أبي موسى الأشعري اليمني لكونه من اليمن، أما دعوى أن المراد منها أبو بكر فلم يرو بهذا الصدد سوى خبر واحد لا يقاوم الأخبار المتظافرة عندهم والتي دلت على أن المراد بالقوم هم أهل اليمن، وقيل إن المراد بالآية الذين جاهدوا يوم القادسية، وقيل هم الفرس.
 قال الناصبي الآلوسي في تفسيره روح المعاني ج4/239:
«والمراد بهؤلاء القوم في المشهور أهل اليمن، فقد أخرج ابن أبي شيبة في مسنده، والطبراني والحاكم وصحّحه من حديث عياض بن عمر الأشعري أنّ النبيّ‏فصلى اللَّه عليه [وآله] لمّا نزلت أشار إلى أبي موسى الأشعري  وهو من صميم اليمن  وقال هم قوم هذا، وعن الحسن وقتادة والضحّاك أنهم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردّة، وعن السدي أنهم الأنصار، وقيل: هم الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النقع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء الناس، وقد حارب هناك سعد  بن أبي وقاص رستم الشقي صاحب جيش يزدجر، وقال الإمامية: هم عليٌّ كرّم اللَّه تعالى وجهه وشيعته يوم وقعة الجمل وصفين، وعنهم أنهم المهدي ومن يتبعه،  ولا سند لهم في ذلك إلا مروياتهم الكاذبة، وقيل: هم الفرس لأنه صلى اللَّه عليه [وآله] سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان الفارسي رضي اللَّه تعالى عنه، وقال هذا وذووه، وتعقبه العراقي قائلاً: لم أقف على خبر فيه، وهو هنا وهم، وإنما ورد ذلك في قوله تعالى: وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم كما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة فمن ذكره هنا فقد وهِمَ».
 يرد عليه:
إن قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه.. هي في قوة قوله تعالى وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم.. فتكون الثانية مفسرة للأولى، وعليه فلا معنى لحصرها بأبي بكر وأصحابه كما يريد الرازي وأمثاله أن يحصروها فيه في حين أن النصوص العامية  الكثيرة قد دلت على أن المراد من الآيتين المذكورتين هم أهل اليمن وأهل فارس. هذا مضافاً إلى أن النبي قال يوم خيبر في حق الإمام علي‏ (عليه السَّلام): لأعطين الراية غداً رجلاً يحب اللَّه ورسوله ويحبه اللَّه ورسوله. وصفة المحبة الموجودة في الآية لا تنطبق إلا على أمير المؤمنين علي‏ (عليه السَّلام) بحسب تصريح النبي بذلك، ولو كان أبو بكر محباً للَّه ولرسوله لكان على النبي أن ينص على ذلك، فعدم تنصيصه يدل على خلو أبي بكر من صفة المحبة للَّه ولرسوله، فكيف تشمله الآية حينئذٍ كما يدّعي العامة؟!
 الشهبة العاشرة:
قال الرازي الناصبيّ في تفسيره لآية الولاية: إن عليّ بن أبي طالب كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الروافض، فلو كانت هذه الآية دالة  على إمامته لاحتج بها في محفلٍ من المحافل، وليس للقوم أن يقولوا أنه تركه للتقية، فإنهم ينقلون عنه أنه تمسك يوم الشورى بخبر الغدير، وخبر المباهلة، وجميع فضائله ومناقبه ولم يتمسك البتة بهذه الآية في إثبات إمامته، وذلك يوجب القطع بسقوط قول هؤلاء الروافض لعنهم اللَّه.
 والجواب:
دعوى الرازي «بأن أمير المؤمنين لم يتمسك بالآية يوم الشورى» ممنوعة، بل قد تمسك بها كما تمسك بغيرها كخبر الغدير والمباهلة وغيرهما.
وقوله: «إن الأمير (عليه السَّلام) لم يتمسك بالآية يوم الشورى» لا يخلو من أمرين:
 إما أنّه أراد به عدم ورود تمسكه بها في أخبارهم.
وإما أنه أراد به عدم ورود خبر على ذلك من طرق الخاصة.
فإن كان الأول فمسلّم إلاّ أنه لا يوجب القطع بعدم التمسك، إذ جلُّ المسائل الاعتقادية الحقة لم يرد بها رواية منهم، وهو لا يدل على انتفاء تلك المسائل واقعاً.
وإنْ كان الثاني ففيه منعٌ، وذلك لورود أخبار كثيرة عند الخاصة  تشير إلى أنه‏ (عليه السَّلام) تمسك بالآية كما تمسك بغيرها من الآيات والأخبار، ولم يتمسك الأمير (عليه السَّلام) بالآية في الشورى فحسب بل احتج بها على أبي بكر لمّا ولي الخلافة، فقد ورد عن ابن بابويه بإسناده عن أبي سعيد الوراق عن أبيه عن الإمام جعفر  بن محمد عن أبيه عن جده الإمام علي‏  بن أبي طالب عليه وآله السلام أنه قال
فأنشدك اللَّه  يا أبا بكر  أنا المولى لك ولكل مسلم بحديث النبي يوم الغدير أم أنت؟ قال بل أنت.
قال فأنشدك باللَّه ألي الولاية من اللَّه مع رسوله في آية الزكاة بالخاتم أم لك؟ قال بل لك.
فظهر مما ذكرنا غفلة الناصب اللعين عن أخبار الشيعة أيدهم اللَّه تعالى، ولا غرو في ذلك فإنه جاهل بما هو أعظم من ذلك، وليس ذلك من الظالمين ببعيد.
 الشبهة الحادية عشرة:
قال الناصبيُّ: هب أن الآية دالة على إمامة عليّ لكنّا توافقنا على أنها عند نزولها ما دلت على حصول الإمامة في الحال، لأن علياً ما كان نافذ التصرف في الأمة حال حياة الرسول، فلم يبق إلا أن تحمل الآية على أنها تدل على أن علياً سيصير إماماً بعد ذلك، ومتى قالوا ذلك فنحن نقول بموجبه ونحمله على إمامته بعد أبي بكر وعمر وعثمان، إذ ليس في الآية ما يدل على تعيين الوقت.
 والجواب:
1 ـ إن ولاية اللَّه تعالى تعني الأولى بالتصرف فعلاً لا قوةً، وهذه الولاية الفعلية أعطاها سبحانه وتعالى لرسوله ولوليّه عليّ‏  بن أبي طالب فولاية أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) كانت نافذة وفعلية في عهد رسول اللَّه ويشهد له قول النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يوم غدير خم: «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه..». لقد أشاد الرسول بولاية الإمام عليّ الفعلية في حياته وبعد مماته، فهذا المعنى كان حاصلاً له حال النزول، لكنه لم يستعملها بشكل مطلق تماماً كرسول اللَّه لم يستعمل ولايته التامة على الأمة، فعدم استعماله‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لولايته التامة ليس معناه عدم امتلاكه لها، وكذا الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام) فما هو لرسول اللَّه هو له‏ (عليه السَّلام)، فعدم الاستعمال ليس ملازماً لعدم الولاية الفعلية.
2 ـ لو سلّمنا أن الآية مفيدة لكونه ولياً في المستقبل نظراً إلى كون الوليّ بمعنى المتصرف، إلاّ أنّا نمنع كون إمامته‏ (عليه السَّلام) بعد أبي بكر وعمر وعثمان إذ الآية كما هي مثبتة لإمامته‏ (عليه السَّلام) كذلك نافية للإمامة عن غيره، وعليه فلا يبقى للثلاثة خلافة حتى يتأخر أمير المؤمنين علي‏ (عليه السَّلام) عنهم أو يتقدم عليهم وهو ظاهر.
هذه أهم الشبهات التي أوردها المخالفون على آية الولاية مع الإجابة عليها ونقضها بحمد اللَّه تعالى.
 الآية الثانية:قوله تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً.
تقريب الاستدلال بالآية أنه سبحانه أوجب طاعة أولي الأمر كما أوجب طاعة الرسول، وهو يقتضي عموم طاعتهم ولم يقيّدها سبحانه بشي‏ء من الأشياء، ولو أراد التقييد لكان عليه أن يبيّن هذا، فلمّا لم يكن هناك قيد دل على إرادة الكل، بحيث تجب طاعتهم في كل ما يأمرون وينهون وتنفذ أقوالهم في كل ما يريدون، فإذا ثبت ذلك لا بد وأن يكون وليّ الأمر معصوماً عن الخطأ، إذ مع عدم عصمته عن الخطأ لم يؤمن من وقوع الخطأ منه، وعلى تقدير وقوع الخطأ منه يلزم أن يكون قد أمرنا عزّ وجل بمتابعته فيلزم منه أمره سبحانه بالقبيح وهو محال، فثبت أن أمره بمتابعة أولي الأمر وطاعتهم يستلزم العصمة لهم، وإذا ثبت دلالة الآية على العصمة وعموم الطاعة ثبت أن المراد بأولي الأمر فيها الأئمة من آل البيت‏ (عليهم السَّلام)، إذ لا أحد يجب طاعته على ذلك الوجه مع النبيّ إلا هم سلام اللَّه عليهم.
 وبعبارة أخرى: إن اللَّه تعالى أوجب على العباد طاعته مطلقاً، وكذا أوجب طاعة رسوله الكريم وطاعة أوليائه الميامين على نحو الإطلاق وهو لا يتم إلاّ بعصمة أولي الأمر، لأن الإطاعة المطلقة المعطوفة على طاعة اللَّه وطاعة رسوله تستوجب وتستلزم عصمة أولي الأمر، فإن غير المعصوم قد يأمر بمعصية فتحرم طاعته فيها، فلو وجبت أيضاً لاجتمع الضدان: وجوب طاعته وحرمتها.
 قد يقال: إنّا نحمل الآية على إيجاب الطاعة له في خصوص الطاعات دون غيرها.
 نقول:
لا يصح هذا الحمل المزعوم لكونه منافياً لإطلاق الآية، ولأنّ هذا الحمل لا يجامع ظاهرها من إفادة تعظيم الرسول وأولي الأمر بمساواتهم للَّه تعالى في وجوب الطاعة مطلقاً، فحصر وجوب الطاعة في الطاعات خلاف الإطلاق في الآية، على أن وجوب الطاعة في الطاعات ليس من خواص الرسول وأولي الأمر بل تجب طاعة كل آمر بالمعروف، فلا بد أن يكون المراد بالآية بيان عصمة الرسول وأولي الأمر وأنهم لا يأمرون ولا ينهون إلا بحق.
ولا إشكال أنّ تكرار الأمر بالطاعة ليس للتأكيد «فإن القصد لو كان متعلقاً بالتأكيد كان ترك التكرار أدل عليه وأقرب منه كما لو قيل: أطيعوا اللَّه والرسول فإنه كان يفيد أن إطاعة الرسول عين إطاعة اللَّه سبحانه وأن الإطاعتين واحدة، وما كل تكرار يفيد التأكيد».
والآية المباركة توحي بوجوب ثلاث طاعات:
 الأولى: إطاعته سبحانه فيما أوحاه إلى رسوله في الكتاب الكريم، وفي كل ما أمر به.
 الثانية: إطاعة رسوله محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فيما أوحى إليه بالسنّة المطهرة، وفيما صدر منه من رأي، سواء المتعلق بالحكومة والقضاء أم في مجال إبداء الرأي في الأمور الشخصية والموضوعات الجزئية حتى تلك التي لا يترتب عليها حكم شرعي، لشمول أدلة العصمة له فيها.
 الثالثة: إطاعة أولي الأمر (عليهم السَّلام) فيما يبيّنون من الأحكام وفي مجالات الحكومة والقضاء وإبداء الرأي في الأمور كلها كما كان ذلك ثابتاً لرسول اللَّه.
 وبالجملة: «فالرسول له حيثيتان:
 الأولى: حيثية التشريع بما يوحيه إليه ربه من غير كتاب، وهو ما يبيّنه للناس من تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب وما يتعلق ويرتبط بها كما قال تعالى:وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.
 الثانية: ما يراه من صواب الرأي وهو الذي يرتبط بولايتي الحكومة والقضاء، قال تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وهذا هو الرأي الذي كان يحكم به على ظواهر قوانين القضاء بين الناس، وهو الذي كان‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يحكم به في عزائم الأمور، وكان اللَّه سبحانه أمره في اتخاذ الرأي بالمشاورة، فقال: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ  فأشركهم به في المشاورة ووحدّه في العزم.
وبهذا نعرف أن لإطاعة الرسول معنى، ولإطاعة اللَّه سبحانه معنى آخر، وإن كان إطاعة الرسول إطاعة للَّه بالحقيقة لأن اللَّه هو المشرع لوجوب إطاعته كما قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ.
فعلى الناس أن يطيعوا الرسول فيما يبيّنه بالوحي، وفيما يراه من الرأي. وأما أولوا الأمر فهم وإنْ لم يكن لهم نصيب من الوحي التشريعي عدا الوحي التسديدي فإنهم يشاركون الرسول فيه بلا إشكال، مع اشتراكهم معه في مجال الرأي والموضوعات الجزئية، فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم وقولهم، ولذلك لما ذكر وجوب الرد والتسليم عند المشاجرة لم يذكرهم بل خصّ اللَّه والرسول، فقال: فإن تنازعتم في شي‏ء فردوه إلى اللَّه والرسول إن كنتم تؤمنون باللَّه واليوم الآخر وذلك أن المخاطبين بهذا الردّ هم المؤمنون المخاطبون بقوله في صدر الآية: يا أيها الذين آمنوا والتنازع إنّما هو تنازعهم بلا ريب، ولا يجوز أن يفرض تنازعهم مع أولي الأمر مع افتراض طاعتهم بل هذا التنازع هو ما يقع بين المؤمنين أنفسهم، وليس في أمر الرأي بل من حيث حكم اللَّه في القضية المتنازع فيها بقرينة الآيات التالية الذامة لمن يرجع إلى حكم الطاغوت دون حكم اللَّه ورسوله وهذا الحكم يجب الرجوع فيه إلى أحكام الدين المبيّنة المقرّرة في الكتاب والسنّة، والكتاب والسنّة حجتان قاطعتان في الأمر لمن يسعه فهم الحكم منهما، وقول أولي: في أن الكتاب والسُنَّة يحكمان بكذا أيضاً حجة قاطعة فإنّ الآية تقرر افتراض الطاعة من غير أي قيدٍ أو شرط والجميع راجع آخر الأمر إلى الكتاب والسنّة.
من هنا ليس لأولي الأمر (عليهم السَّلام) إلا ما للَّه تعالى وما لرسوله من الحكم أعني الكتاب والسنّة، لذا لم يذكرهم اللَّه سبحانه ثانياً عند ذكر الرد بقوله: فإن تنازعتم في شي‏ء فردوه إلى اللَّه والرسول فلله تعالى إطاعة واحدة، وللرسول وأولي الأمر إطاعة واحدة، ولذلك قال: أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.
وهذه الإطاعة المأمور بها في الآية المباركة إطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط ولا مقيدة بقيد، وهو دليل واضح على أن الرسول لا يأمر بشي‏ء، ولا ينهى عن شي‏ء يخالف حكم اللَّه في الواقعة وإلاّ كان فرض طاعته تناقضاً منه تعالى وتقدس، ولا يتم ذلك إلا بعصمة فيه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهذا بعينه جار في أولي الأمر (عليهم السَّلام)».
مضافاً إلى ما تقدم فإنّ عصمة الرسول وأولي الأمر في الأحكام لا يعني عدم عصمتهم في مجال إبداء الرأي وتشخيص الموضوعات، إذ إنّ عصمتهم في هذه الناحية مستفادة من الإطلاق الموجود في صيغة افعل: «أطيعوا» فليست الإطاعة مشروطة في حكم الكتاب والسنّة فحسب بل تتعداها إلى غيرها من المجالات الأخرى.
وبهذا التقرير ظهر ضعف ما ذهب إليه العامة من حمل أولي الأمر على المتخلّفين الثلاثة أو على أمراء السرايا أو على الحكام والعلماء، ضرورة انتفاء العصمة عنهم جميعاً، مضافاً إلى عدم وجوب طاعة الأمراء كالعلماء على نحو العموم باتفاق الخاصة والعامة، وإنما طاعة الأمراء واجبة فيما لو كانوا مؤمنين وكانوا مع الحق، وطاعة العلماء كذلك في الأحكام الشرعية، على أنّ الأمراء كالعلماء يختلفون في الآراء، ففي طاعة بعضهم عصيان بعض، وإذا أطاع المؤمن بعضهم عصى الآخر لا محالة.
وقد ذكر فخرُ المشكِّكين الرازي خمسة وجوه في معنى «أولي الأمر»:
1 ـ أنهم الخلفاء الراشدون.
2 ـ الأمراء والحكام.
3 ـ العلماء بالأحكام والشرائع.
4 ـ الإجماع.
5 ـ ما نقل عن الروافض  حسب تعبير فخر النّواصب الرازي  أنهم الأئمة المعصومون.
وكل هذه الوجوه باطلة سوى الخامس لكون أئمة آل البيت‏ (عليهم السَّلام) هم القدر المتيقن من أولي الأمر لثبوت أدلة العصمة لهم بالآية ونظائرها، وللأحاديث المتواترة على ذلك، وهذه
الوجوه هي في الواقع شبهات قامت الأدلة على بطلانها،وها نحن نقرّرها ثم نورد عليها تباعاً :

( الوجه الأول):تقريره:

أن أولي الأمر في الآية هم الخلفاء الراشدون  وهم الذين شغلوا منصب الخلافة بعد رسول اللَّه لكونهم حكاماً على الأمة يرعون مصالحها، فلا بدّ أن تكون أوامرهم نافذة على الخلق.
 والجواب:
1 ـ إن مدلول الآية دال على عصمة أولي الأمر، ولا عصمة في هؤلاء المزعومين سوى الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام) حيث ثبتت عصمته بآية التطهير وبوجوب الإطاعة المطلقة في هذه الآية طبقاً للأحاديث النبوية الشريفة الدالة على ذلك كحديث الثّقلين وحديث عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار إلى غير ذلك من النصوص القطعية المثبتة ذلك.
2 ـ إن تخصيص أولي الأمر بالخلفاء يعتبر تقييداً من دون دليل يدل عليه، هذا مضافاً إلى أن مؤداه يقتضي نسبة العصمة للمتقدمين على مولانا أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام)، في حين قامت الأدلة القطعية والإجماع على بطلان ذلك.
 (الوجه الثاني):
 

إن المراد ب«أولي الأمر» هو الأمراء والحكام في كل زمان، وإنْ نزلت الآية بخالد  بن الوليد حيث نصّبه النبيُّ أميراً على بعض السرايا، وكان معه عمار  بن ياسر، فساروا قبل القوم الذين يريدون، فلما بلغوا قريباً منهم عرسوا وأتاهم النذير فأخبرهم فأصبحوا وقد هربوا غير رجل أمر أهله فجمعوا متاعهم، ثم أقبل يمشي حتى أتى عسكر خالد فسأل عن عمار  بن ياسر فأتاه، فقال يا أبا اليقظان إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا اللَّه وأن محمّداً عبده ورسوله، وإن قومي لمّا سمعوا بكم هربوا وإني بقيت فهل إسلامي نافعي غداً وإلا هربت؟ قال عمار: بل هو ينفعك فأقم فأقام، فلمّا أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحداً غير الرجل فأخذه وأخذ ماله، فبلغ عماراً الخبر، فأتى الخبر، فقال خلِّ عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني، فقال خالد: وفيم أنت تجير؟ فاستبا وارتفعا إلى النبيّ فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على  أمير، فاستبا عند رسول اللَّه فقال خالد: أتترك هذا العبد الأجدع يسبني، فقال رسول اللَّه: يا خالد لا تسبّ عماراً فإنّ من سبّ عماراً يسبه اللَّه ومن يبغض عماراً يبغضه اللَّه، ومن يلعن عماراً يلعنه اللَّه، فغضب عمار فقام فتبعه خالد فأخذ بثوبه فاعتذر إليه فرضي عنه فأنزل اللَّه عز وجل قوله: أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.
وبالجملة: فإن الآية  بنظر أصحاب هذا الرأي  نزلت بالأمراء والحكام، وعلى المسلمين أن يطيعوهم في كل حال، ورووا في ذلك أخباراً منها:
عن أنس أن رسول اللَّه قال اسمعوا وأطيعوا، وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة.
وعنه أيضاً قال أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدوع الأطراف.
وعنه أيضاً: من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية.

 يورد عليه:
1 ـ إنّ كل ما أوردناه على الوجه الأول، يجري على هذا الوجه أيضاً.
2 ـ إن هذا التفسير لا يتناسب مع مفهوم الآية وروح الإسلام، إذ لا يمكن أن تقترن طاعة الأمراء والحكام والحكومات  مهما كانت طبائعهم  من دون قيد أو شرط بإطاعة اللَّه والرسول، لأنّ اللَّه تعالى لا يأمر بإطاعة السهو والغلط، والأمراء والحكام ليسوا مأمونين من ذلك، فقبيح أن يأمر سبحانه بإطاعتهم.
 قد يقال:
إن طاعة هؤلاء مشروطة بعدم عصيانهم ومخالفتهم لقوانين الشريعة، فلا بأس حينئذٍ أن تأمر الآية بإطاعتهم ما داموا في طاعة اللَّه تعالى.
وبتعبير آخر: «إن اللَّه فرض طاعتهم على المؤمنين فإنْ أمروا بما يخالف الكتاب والسنّة فلا يجوز ذلك منهم ولا ينفذ حكمهم لقول رسول اللَّه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» وقد روى هذا المعنى الفريقان وبه يُقيّد إطلاق الآية، وأما الخطأ والغلط فإنْ علم به ردّ إلى الحق وهو حكم الكتاب والسنّة، وإن احتمل خطأه نفذ فيه حكمه كما فيما علم عدم خطئه، ولا بأس بوجوب القبول وافتراض الطاعة فيما يخالف الواقع هذا النوع لأن مصلحة حفظ الوحدة في الأمة وبقاء السؤدد والأبهة تتدارك بها هذه المخالفة، ويعود إلى مثل ما تقرر في أصول الفقه من حجية الطرق الظاهرية مع بقاء الأحكام الواقعية على حالها، وعند مخالفة مؤداها للواقع تتدارك المفسدة اللازمة بمصلحة الطريق».

 والجواب:
1ـ  من الممكن تقييد إطلاق الآية في صورة الفسق بما ذكر من قول النبيّ: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» وكما في قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وكذا من الممكن بل الواقع أن يجعل شرعاً نظير هذه الحجية الظاهرية المذكورة كفرض طاعة أمراء السرايا الذين كان ينصّبهم رسول اللَّه، وكذا الحكام الذين يولّيهم على البلاد كمكة واليمن أو يخلفهم بالمدينة إذا خرج إلى غزاة، وكحجية قول الفقيه على مقلده، ولكنه لا يوجب تقييد الآية، فكون مسألة من المسائل صحيحةً  في نفسه  أمراً على حدا، وكونها مدلولاً عليها بظاهر آية قرآنية أمراً آخر.
2 ـ الآية المباركة دالة على وجوب إطاعة أولي الأمر، بحيث لم تقيد مفهوم الإطاعة، ولم تشترط فيه شرطاً، فيبقى الإطلاق منعقداً في الظهور بموجب مقدمات الحكمة أو الوضع، هذا مضافاً إلى أنه ليس في الآيات القرآنية الأخرى ما يقيّد الآية المباركة في مدلولها، حتى يعود معنى قوله: وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم إلى مثل قولنا: وأطيعوا أولي الأمر منكم فيما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطئهم فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم، وإن علمتم خطأهم فقوّموهم بالرد إلى الكتاب والسنّة، مع أنه سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيد فيما هو دون هذه الطاعة المفترضة كقوله تعالى في الوالدين: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا فما باله لم يظهر شيئاً من هذه القيود في آية تشتمل على أُس أساس الدين، وإليها تنتهي عامة أعراق السعادة الإنسانية؟ على أن الآية جمع فيها بين الرسول وأولي الأمر، وذكر لهما معاً طاعة واحدة فقال: وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ولا يجوز على الرسول أن يأمر بمعصية أو يغلط في حكم، فلو جاز شي‏ء من ذلك على أولي الأمر لم يسع إلاّ أن يذكر القيد الوارد عليهم، فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أي تقييد، ولازمه اعتبار العصمة في جانب أولي الأمر كما اعتبر في جانب رسول اللَّه من غير فرق.
 (الوجه الثالث):


إن المراد من «أولي الأمر منكم» هم العلماء العدول العارفون بمحتويات الكتاب والسُنة معرفة كاملة، واستدل أصحاب هذا الرأي بعموم اللفظ الوارد في «أولي».
قال ابن كثير: والظاهر  واللَّه أعلم  أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء.
 والجواب:
1ـ  ما أشكلناه على الوجه الثاني، يجري بعينه هنا.
2 ـ إن قوله تعالى: وأولي الأمر معناه: أطيعوا من له الأمر، وهذا ليس مختصاً بالعلماء وحدهم بل يشمل كل من له الأمر، فتخصيص الإطاعة حينئذٍ بالعلماء دون غيرهم يعتبر ترجيحاً من دون مرجح أو دليل.
3 ـ كما لا يجوز تخصيص طاعة اللَّه وطاعة الرسول في شي‏ء دون شي‏ء، كذا لا يجوز تخصيص طاعة أولي الأمر في حال الصواب دون غيره ما لم ينصب قرينة على ذلك وهي مفقودة في الآية بحكم الالتحام بين طاعة الرسول وأولي الأمر، وهذا الالتحام دليل على عصمة أولي الأمر الذين يختلفون عن العلماء بعصمتهم وطهارتهم.
هذا مضافاً إلى عدم وجوب طاعة العلماء والأمراء على نحو العموم باتفاق الجميع، فطاعة الأمراء واجبة فيما لو أمروا بالحق، وطاعة العلماء كذلك في الأحكام الشرعية، على أن العلماء كالأمراء ربما يختلفون في الآراء، ففي طاعة بعضهم عصيان بعض، وإذا أطاع المؤمن بعض العلماء عصى الآخر لا محالة لاختلافهم في الآراء، فمن البعيد جداً أن تقصد الآية إطاعة العلماء من حيث عدم إتصافهم بملكة العصمة، لما في الأمر بإطاعتهم مفسدة عظيمة من حيث كثرة اختلافهم في الآراء والأحكام.
4ـ  لو فرضنا وجوب إطاعة العلماء في الأحكام التي يستفيدونها من الكتاب والسُنّة، لكن لا تكون إطاعتهم شيئاً غير إطاعة اللَّه وإطاعة النبيّ، فلا حاجة إلى ذكرها بصورة مستقلة، مما يعني أن أولي الأمر غير العلماء المعرّضين للخطأ في الأحكام والآراء، فأولوا الأمر معصومون تجب طاعتهم في كل الأحوال والأزمان بخلاف العلماء فإن إطاعتهم واجبة في حال دون حال، فحصر الآية في العلماء خلاف إطلاق الإطاعة في كل الأحوال.
ويجدر بنا هنا التأكيد على أن أولي الأمر هم علماء واقعيون، فلو دار الأمر بين الأخذ منهم وممن يأخذون الأحكام بالظنون والأصول العملية الظاهرية فلا شك أن العقل والشرع يأمران بالأخذ من الواقعيين لا الظاهريين، والواقعيون هم المعصومون ولا أحد معصوم سوى أهل البيت‏ (عليهم السَّلام)، فتأمل.
( الوجه الرابع):
إن المراد من «أولي الأمر» هو الإجماع ويعبّر عن المجمعين بأهل الحل والعقد. وممن قال بهذا فخر المشكّكين الرازي في تفسيره حيث أثبت دلالة الآية على وجوب عصمة أولي الأمر ثم إدّعى العصمة للإجماع، فقال
«والدليل على ذلك  أي أن إجماع الأمة حجة  أن اللَّه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر اللَّه بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بُد وأن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللَّه بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأً منهى عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وأنه محال، فثبت أن اللَّه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أن كل من أمر اللَّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بدّ وأن يكون معصوماً، ثم نقول: ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعض الأمة، لا جائز أن يكون بعض الأمة، لأنّا بيّنا أن اللَّه تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعاً، وإيجاب طاعتهم قطعاً مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم والاستفادة منهم، ونحن نعلم بالضرورة إنّا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليهم، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن المعصوم الذي أمر اللَّه المؤمنين بطاعته ليس بعضاً من أبعاض الأمة، ولا طائفة من طوائفهم، ولمّا بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله «وأولي الأمر» أهل الحل والعقد من الأمة، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة».
وعليه فإن مجموع الأمة أو مجموع ممثليها  بنظر الرازي وأمثاله  لا يمكن أن يتطرق إليه خطأ مما يستتبع القول أن هذه الأمة معصومة، فتكون النتيجة أن إطاعتها واجبة تماماً كإطاعة اللَّه تعالى ورسوله.

 يورد عله:
 أولاً: إن إجماع جميع الأمة لا يمكن انعقاده إلى يوم القيامة سواء كان الإجماع كل أفراد الأمة أم كان بعض أفرادها كأهل الحل والعقد، فكيف يحمل الآية على غير الممكن، وذلك لأن أمة رسول اللَّه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) كل من تابعه إلى يوم القيامة، وكل موجود في عصره فإنه بعض الأمة، هذا مضافاً إلى أنه لم يقم دليل على عصمة أهل الحل والعقد وكذا عصمة جميع الأمة، فلا يمكن حمل العصمة على الأمة.
 إشكال وحل:
كيف ينفي المسلمون الإمامية عصمة الإجماع وقد قال النبيُّ: «لا تجتمع أمتي على الخطأ» «ولا تجتمع أمتي على الضلالة»؟
 والجواب:
1 ـ إن الخبر المزبور غير تام سنداً ودلالة، أما من حيث السند فلكونه من المراسيل الضعاف، وأما من حيث الدلالة فلأن الأمة افترقت على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة ناجية والبقية في النار، فكيف يدخلون النار وهم مجتمعون مع الحق ضد الباطل، وهل تمس النار من كان محقاً؟!!
هذا مضافاً إلى مصادمة الحديث المذكور مع واقع المسلمين وتناحرهم ومع النصوص المتواترة الدالة على أن أمته سيصيبها مثل ما أصاب الأمم المتقدمة حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة. وما ورد بالمتواتر بين الفريقين عن النبي‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال ليردن عليّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا دفعوا اختلجوا دوني، فأقولنّ: أي ربّ أصحابي فليقالنّ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
2 ـ لو سلّمنا صحة الخبر وجب حمل الأمة فيه على خصوص الإمامية من حيث ثبوت الملازمة بين إجماع علمائها وقول المعصوم‏ (عليه السَّلام) لكونها الفرقة الناجية.
 ثانياً: إما يراد من «الذين آمنوا» في الآية المجتهدون خاصة، أو المقلدون خاصة، أو الأعم الشامل للجميع، ولا يمكن إرادة واحد من الأولين لما فيه من التخصيص الذي هو خلاف الأصل، مضافاً إلى استلزامه اختصاص وجوب طاعة اللَّه ورسوله بإحدى الطائفتين، وإلى استلزامه حجيّة إجماع العوام على تقدير إرادة الثاني. لأن المخاطبين بقوله: فإن تنازعتم في شي‏ء هم المخاطبون الأولون، ومفهومه عدم وجوب الردّ إلى اللَّه والرسول حين الاتفاق فيلزم حجية إجماع العوام حينئذٍ ولا يقول به الخصم، وإذا لم يمكن إرادة أحد الأولين تعيّن إرادة الثالث أي جميع المؤمنين الشاملين للمجتهدين والمقلدين، وعليه فلا بدّ وأن يكون أولوا الأمر غير المجتهدين، لئلا يلزم اتحاد المطيع والمطاع، مع أن ظاهر اللفظ أيضاً المغايرة، فتعين أن المراد بأولي الأمر الأئمة المعصومون وبطل ما توهمه الناصب الجحود من حمله على أهل الحل والعقد.
 ثالثاً: ليس هناك أي دليل على عصمة مجموع الأمة من دون وجود إمام معصوم بينهم، ودعوى عصمة المجموع منافية للناموس العام، لأن إدراك الكل هو إدراك الإبعاض، وإذا جاز الخطأ على كلّ واحد فرداً فرداً جاز الخطأ على الكل كمجموع، إضافة إلى ذلك فكم من منتدى إسلامي بعد رحلة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) اجتمع فيه أهل الحل والعقد من المسلمين على ما اجتمعوا عليه ثم سلكوا طريقاً يهديهم إليهم رأيهم فلم يزدهم إلاّ ضلالاً، ولم يزد إسعادهم المسلمين إلاّ شقاءً، ولم يمكث الاجتماع الديني بعد النبي دون أن عاد إلى امبراطورية ظالمة حاطمة! فليبحث الناقد في الفتن منذ قبض رسول اللَّه وما استتبعه من دماء مسفوكة وأعراض مهتوكة وأموالٍ منهوبة، وأحكام عطلت، وحدودٍ أُبطلت! ثم ليبحث في منشئها ومحتواها وأصولها وأعراقها هل تنتهي الأسباب العاملة فيها إلاّ ما رآه أهل الحل والعقد من الأمة ثم حملوا ما رأوه على أكتاف الناس؟ فلا مناص من القول بأن أهل الحل والعقد على حدّ سائر الناس يصيبون ويخطئون، فإذا كانوا كذلك فكيف يمكن القول أنهم معصومون؟!!
 رابعاً: مع أن المنصرف من «أولي الأمر» من له الزعامة، أن ظاهر الآية إفادة عصمة كل واحد منهم لا مجموعهم، لأن ظاهرها إيجاب طاعة كل واحد منهم، مع أن العمل بمقتضى الإجماع ليس من باب الطاعة لهم كمجمعين بل من باب أنهم يكشفون عن رأي المعصوم، فالطاعة حينئذٍ له وليس لهم، وبما أن الرازي وجماعته لا يؤمنون بوجود معصوم بعد وفاة النبي سوى ما ادعاه من عصمة الإجماع، فكيف يكون المجمعون حينئذٍ معصومين لأنه إذا جاز الخطأ على كل واحد واحد جاز على الكل.
وعلى هذا الأساس تواجه هذه التفاسير إشكالات ومآخذ تقدمت معنا، ويبقى التفسر الخامس سليماً من جميع الاعتراضات السابقة لموافقة هذا التفسير (أي أن أولي الأمر هم المعصومون) لوجوب الإطاعة للَّه ولرسوله، لأن مقام العصمة يحفظ الإمام من كل معصية ويصونه عن كل خطأ، وبهذا يكون أمره مثل أمر الرسول واجب الإطاعة من دون قيد أو شرط، فإطاعة الإمام هي نفس إطاعة الرسول من دون تكرار لفظ «أطيعوا»، لأن العطف بالواو يقتضي الجمع والمشاركة في الحكم، ومعنى هذا أن أمرهم هو أمره، ولا شك أن هذه المرتبة السامية لا تكون إلاّ لمن اتصف بما يؤهله لها، ولا شي‏ء يؤهله لذلك إلاّ العصمة عن الخطأ والسهو والمعصية، فهي وحدها التي تجعل طاعته وطاعة الرسول سواء.
والعصمة منحة إلهية يختص اللَّه بها من ارتضى من عباده، ولا يرتضي إلا من كان أهلاً لذلك، ونقصد بالعصمة الطهارة الذاتية لا الاكتسابية بحيث تكون مع المعصوم منذ ولادته إلى وفاته لا تفارقه أبداً، وعليه ينحصر الطريق إلى معرفة العصمة بالوحي فقط، وقد ثبت النص كتاباً وسنةً على عصمة أهل البيت‏ (عليهم السَّلام)، من ذلك قوله تعالى:إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.
ومن ذلك قول الرسول الأعظم‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): «من أطاعني فقد أطاع اللَّه، ومن عصاني فقد عصى اللَّه، ومن أطاع علياً فقد أطاعني، ومن عصى علياً فقد عصاني».
رواه الحاكم في المستدرك وقال هذا حديث صحيح، وصححه أيضاً الذهبي في تلخيص المستدرك.
كما أن النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال عليّ مني وأنا من عليّ. والحق مع عليّ وعليّ مع الحق يدور معه حيثما دار.
إلى ما هنالك من عشرات الأحاديث الصحيحة والموثقة والمعتبرة رواها العامة في كتبهم وصحاحهم، ومروية بأسانيدهم، وقد جمعها علماء الشيعة في مؤلفات خاصة قديماً وحديثاً فلتراجع.
هذا وقد أشكل فخر المشكّكين الرازي على أنَّ المراد من أولي الأمر يختلف عمّا نعتقده نحن الإماميَّة بوجوه:
 الوجه الأول: إن طاعتهم  أي الأئمة المعصومين  مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم، فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق، ولو وجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار هذا الإيجاب مشروطاً، وظاهر قوله: أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم يقتضي الإطلاق، وأيضاً ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال، وذلك لأنه تعالى أمر بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في لفظة واحدة وهو قوله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، واللفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة ومشروطة، فلما كانت هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب أن تكون مطلقة في حق أولي الأمر.
 وبعبارة موجزة:
إن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم فإنها من دون معرفتهم تكليف بما لا يطاق، وإذا كان مشروطة فالآية تدفعه لأنها مطلقة، كما أننا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم وعاجزون عن الوصول إليه، لذا فإن المعصوم الذي أمر اللَّه بطاعته ليس بعضاً من أبعاض الأمة وإنما أهل الحل والعقد.
  وفيه:
1 ـ أنّ الإشكال منقلب على المستشكل، فإن الطاعة مشروطة بالمعرفة مطلقاً، وإنما الفرق أن أهل الحل والعقد يعرف مصداقهم على قوله من عند أنفسنا من غير حاجة إلى بيان من اللَّه ورسوله، والإمام المعصوم يحتاج معرفته إلى معرّف يعرّفه، ولا فرق بين الشرط والشرط في منافاته الآية.
 وبتعبير آخر:
كما أن طاعة الإمام المعصوم موقوفة على معرفته وعلى قدرة الوصول إليه، واستفادة الأحكام منه، فكذلك طاعة أهل الحل والعقد موقوفة على معرفتهم وعلى قدرة الوصول إليهم واستفادة الأحكام منهم، وكما أننا عاجزون في زماننا هذا عن الوصول إلى جناب الإمام‏ (عليه السَّلام) وعن استفادة الدين والعلم منه، فكذلك عاجزون عن الوصول إلى أهل الحل والعقد وعن استفادة الاطلاع على آرائهم، وإن كان عجزنا في الأول مستنداً إلى غيبته‏ (عليه السَّلام) وعجّل اللَّه فرجه الشريف، وفي الثاني إلى كثرتهم وانتشارهم في شرق الأرض وغربها.
هذا مضافاً إلى أن توقف طاعة أولي الأمر على معرفتهم واستفادة الأحكام منهم لا يوجب كون وجوبها مشروطاً بذلك، وإنما هي من مقدمات الوجود، وبالجملة فإن إطاعة أولي الأمر واجب مطلقاً، والواجب المطلق تحصيل مقدماته على عهدة المكلّف، فيجب تحصيل العلم برأيهم حتى يطيعهم المكلّف، وعجزنا في هذا الزمان عن الوصول إلى حضرة ولي الأمر (عليه السَّلام)، وعن العلم برأيه إنما هو مستند إلى أنفسنا، لأننا نحن السبب في استتاره فكل ما يفوتنا من الانتفاع به وبتصرفه وبما معه من الأحكام يكون من قبلنا وجهتنا، ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به، وأدّى إلينا الحق الذي عنده وتمكّنّا من طاعته وامتثال أوامره، وما ذكره الناصب لا ينطبق على زمان حضور أئمة أهل البيت‏ (عليهم السَّلام) حيث لم يكن مانع يومئذ عن حمل أولي الأمر عليهم، وإنما المانع الذي توهمه الناصب هو العجز عن الوصول إلى ولي الأمر وهو مختص بزمان الغيبة الكبرى، فدليله أخص من مدعاه.
 الوجه الثاني: أنه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر، وأولوا الأمر جمع وعندهم لا يكون في الزمان إلاّ إمام واحد، وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر.
 وفيه:
 أولاً: أن دعوى الرازي بأنه لا يكون في الزمان إلاّ إمام واحد ممنوعة، وذلك بتعدده في زمان الرسول‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ومن بعده من الأئمة (عليهم السَّلام) لوجود أولادهم المعصومين معهم.
 ثانياً: أنّ الجمع باعتبار تعددهم وإنْ تعددت الأزمنة، ولا دلالة في الآية على أن طاعتهم جميعاً لا بدّ وأن تكون في زمان واحد، لإمكان حصولها تدريجاً كلّما وجد واحد منهم.
 ثالثاً: أن حمل الجمع على الفرد وإنْ كان خلاف الظاهر إلاّ أنه مع قيام المقتضي عليه، لا ضير فيه، بل اللازم حينئذٍ المصير إليه، والمقتضي في المقام موجود، وهو أن وليّ الأمر لا بد وأن يكون معصوماً، وقد انحصرت العصمة في آل البيت‏ (عليهم السَّلام) لقيام الأدلة على ذلك ومنها الآية المباركة، وبطل ما توهمه الناصب.
 الوجه الثالث: أنه قال: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ولو كان المراد بأولي الأمر الإمام المعصوم لوجب أن يقال فإن تنازعتم في شي‏ء فردوه إلى الإمام، فثبت أن الحق تفسير الآية بما ذكرناه ، انتهى كلامه هبط مقامه.
 وفيه:
1 ـ إن الإمام المعصوم وإنْ كان في كل عصر شخصاً واحداً إلا أن الأئمة المتعددين في العصور المختلفة يشكلون جماعة، والآية المباركة لا تحدد وظيفة الناس في عصر واحد، بل تعيّن لهم أن كل عصر فيه إمام معصوم يجب الرجوع إليه.
2 ـ إن تفسير أولي الأمر بالعترة الطاهرة حكم الواحد منهم في العصمة وافتراض الطاعة حكم الرسول لا يتنافى مع عموم لفظ أولي الأمر بحسب اللغة، وإرادته من اللفظ فإن قصد مفهوم من المفاهيم من اللفظ شي‏ء وإرادة المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم شي‏ء آخر، وذلك كمفهوم الرسول فإنه معنى عام كلي، وهو المراد من اللفظ في الآية لكنّ المصداق المقصود هو الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
 إشكالان آخران وجوابهما:
الإشكال الأول:
لو كان المراد من «أولي الأمر» العترة الطاهرة لاحتاج ذلك إلى تعريف صريح من اللَّه ورسوله، ولو كان ذلك لم يختلف في أمرهم اثنان بعد رسول اللَّه.

 وجوابه:
إن ذلك منصوص عليه في الكتاب والسنّة كآية الولاية وآية التطهير وغير ذلك، وكحديث السفينة: مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق. وحديث الثقلين: إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً. وكأحاديث أولي الأمر المروية من طرق الخاصة والعامة.
الإشكال الثاني:
إذا كان المقصود من أولي الأمر هم الأئمة المعصومون، فلماذا أشار اللَّه سبحانه في ذيل الآية إلى مسألة التنازع والاختلاف بين المسلمين إذ قال)>ع94س4ش95ن11>).
فذيل الآية هنا لم يُشر إلى «أولي الأمر» بل أشار إلى اللَّه تعالى وإلى الرسول أي إلى الكتاب والسنَّة كمرجعين يرجع إليهما المسلمون عند التنازع والاختلاف.
 وفيه:
 أولاً: إن هذا الإشكال لا يرد على الشيعة الإمامية فحسب بل يشمل بقية التفاسير أيضاً ومنها التفسير العامي لأولي الأمر.
 ثانياً: لا شك أن المراد من الاختلاف والتنازع في ذيل الآية المذكورة هو الاختلاف والتنازع في الأحكام لا في المسائل المتعلقة بجزئيات الحكومة والقيادة لأنه في مسائل الحكومة والقيادة تجب إطاعة أولي الأمر كما هو صريح صدر الآية المباركة.
وجملة القول: فالمراد من الاختلاف هو الاختلاف في الأحكام والقوانين الكلية التي يعود أمر تشريعها إلى اللَّه سبحانه ونبيّه الكريم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لأننا نعلم أن الإمام مجرد منفّذ للأحكام الإلهية وليس مشرّعاً، ولا ناسخاً لها، وإنما يطبق الأحكام والأوامر الإلهية في الأمة، لذا ورد عنهم‏ (عليهم السَّلام) أنهم قالوا: «إذا بلغكم عنا ما يخالف كتاب اللَّه وسنّة نبيّه فاضربوه عرض الحائط ولا تقبلوه» أي يستحيل أن يقولوا ما يخالف كتاب اللَّه وسنّة نبيّه.
وعليه فإن المراد بالتنازع هو تنازعهم بينهم لا تنازع مفروض بينهم وبين أولي الأمر، ولا تنازع مفروض بين أولي الأمر أنفسهم فإن الأول أي التنازع بينهم وبين أولي الأمر لا يلائم افتراض طاعة أولي الأمر عليهم، وكذا الثاني أي التنازع بين أولي الأمر أنفسهم فإن افتراض الطاعة لا يلائم التنازع الذي أحد طرفيه على الباطل على أنه لا يناسب كون الخطاب متوجهاً إلى المؤمنين في قوله: فإن تنازعتم في شي‏ء فردوه..
ولفظ الشي‏ء وإن كان يعم كل حكم وأمر من اللَّه ورسوله وأولي الأمر كائناً ما كان لكن قوله بعد ذلك: فردوه إلى اللَّه والرسول يدل على أن المفروض هو النزاع في شي‏ء ليس لأولي الأمر الاستقلال والاستبداد فيه من أوامرهم في دائرة ولايتهم كأمرهم بنفر أو حرب أو صلح أو غير ذلك، إذ لا معنى لإيجاب الرد إلى اللَّه والرسول في هذه الموارد مع فرض طاعتهم فيها.
وبهذا يتضح أن المراد من «أولي الأمر» هم العترة الطاهرة الذين نص عليهم الرسول الأعظم محمّد بأسمائهم عدد نقباء بني إسرائيل كما في الأخبار المتواترة، منها ما ورد في كفاية الأثر بسند معنعن إلى عمران‏  بن حصين قال خطبنا رسول اللَّه فقال معاشر الناس إني راحل عن قريب ومنطلق إلى المغيب، أوصيكم في عترتي خيراً، فقام إليه سلمان، فقال يا رسول اللَّه أليس الأئمة بعدك من عترتك؟ فقال نعم الأئمة بعدي من عترتي عدد نقباء بني إسرائيل تسعة من صلب الحسين‏ (عليه السَّلام)، ومنا مهديّ هذه الأمة، فمن تمسّك بهم فقد تمسّك بحبل اللَّه لا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم فاتبعوهم فإنهم مع الحق والحق معهم حتى يردوا عليَّ الحوض.
وفي خبر آخر عن سلمان الفارسي رضي اللَّه عنه وأرضاه قال خطبنا رسول اللَّه فقال معاشر الناس إني راحل عن قريب ومنطلق إلى المغيب أوصيكم في عترتي خيراً وإياكم والبدع فإن كل بدعة ضلالة والضلالة وأهلها في النار، معاشر الناس من افتقد الشمس فليتمسّك بالقمر، ومن افتقد القمر فليتمسّك بالفرقدين، فإذا فقدتم الفرقدين فتمسّكوا بالنجوم الزاهرة بعدي، أقول قولي هذا وأستغفر اللَّه لي ولكم.
قال سلمان: فلمّا نزل عن المنبر (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) تبعته حتى دخل بيت عائشة، فدخلت إليه وقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه سمعتك تقول: إذا افتقدتم الشمس فتمسّكوا بالقمر، وإذا افتقدتم القمر فتمسّكوا بالفرقدين، وإذا افتقدتم الفرقدين فتمسّكوا بالنجوم الزاهرة، فما الشمس وما القمر وما الفرقدان وما النجوم الزاهرة؟
فقال أنا الشمس وعليٌّ القمر والحسن والحسين الفرقدان، فإذا افتقدتموني فتمسّكوا بعليّ بعدي، وإذا افتقدتموه فتمسكوا بالحسن والحسين، وأما النجوم الزاهرة فهم الأئمة التسعة من صلب الحسين تاسعهم مهديهم.
ثم قال‏ (عليه السَّلام): إنهم هم الأوصياء والخلفاء بعدي، أئمة أبرار، عدد أسباط يعقوب وحواري عيسى، قلت: فسمهم لي يا رسول اللَّه، قال أولهم عليّ‏  بن أبي طالب، وبعده سبطاي وبعدهما عليُّ زين العابدين، وبعده محمّد بن عليّ الباقر علم النبيين، والصادق جعفر  بن محمّد وابنه الكاظم سمي موسى‏  بن عمران، والذي يقتل بأرض الغربة ابنه عليّ، ثم ابنه محمّد، والصادقان عليّ والحسن، والحجة القائم المنتظر في غيبته، فإنهم عترتي من دمي ولحمي، علمهم علمي وحكمهم حكمي، من أذاني فيهم فلا أناله اللَّه شفاعتي.
وروى القندوزي الحنفي عن أبي حمزة الثمالي عن الإمام محمّد  بن عليّ الباقر عن أبيه عليّ‏  بن الحسين عن أبيه الحسين‏  بن علي)سلام اللَّه عليهم( قال دخلت على جدي رسول اللَّه فأجلسني على فخذه وقال لي: إن اللَّه اختار من صلبك يا حسين تسعة أئمة، تاسعهم قائمهم وكلّهم في الفضل والمنزلة عند اللَّه سواء.
 الآية الثالثة:
قوله تعالى:إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.
من الآيات الدالة على خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام) هذه الآية المباركة المسماة بآية التطهير.
ووجه الاستدلال بها:
أن الآية المباركة نزلت في الإمام علي والصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء وولديهما الإمامين الحسن والحسين عليهم جميعاً التحية والسلام باتفاق المفسرين من العامة والخاصة، والآية واضحة الدلالة على طهارة هؤلاء وعصمتهم من الذنوب، وقد عرفنا بمقتضى الأدلة القطعية أن العصمة شرط في الإمامة، وحيث إن من تقدم على مولانا أمير المؤمنين ليسوا معصومين بالإجماع والضرورة، ثبت بآية التطهير وغيرها أن أمير المؤمنين معصوم، وقد ادعى الإمامة لنفسه وأنها حقه وإن لم يتمكن من حرب من تقدّم عليه، فيكون صادقاً بدعواه، لأن الكذب ولا سيّما في مثل دعوى الإمامة من أعظم الرجس، فحيث ادّعاها لنفسه فيكون صادقاً، فثبت بهذا أنه إمام وخليفة.
والبحث يتركّز على نقطتين:
الأولى: مورد نزول الآية الشريفة.
الثانية: معرفة مداليلها ومفرداتها.

 أما النقطة الأولى: مما لا ريب فيه عند الفريقين أن موردها أهل الكساء هم: الرسول الأعظم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وأمير المؤمنين عليّ وسيّدة النساء الصدّيقة فاطمة والإمامان الحسن والحسين عليهم أجمعين آلاف التحية والسلام. ولا خلاف بين المسلمين في أن مورد الآية هم هؤلاء الأطهار، لكنّ بعض الشواذ من العامة ادّعوا شمول الآية لأزواج النبيّ، وهؤلاء الشواذ شرذمة قليلة من العامة لا يعبأ بهم، خالفوا الإجماع، من هنا صرّح ابن حجر في الصواعق «أن أكثر المفسرين قالوا إنها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام لتذكير ضمير عنكم وما بعده».
وقد جاءت الأخبار الصحيحة والموثقة والحسنة والعالية الأسانيد بذلك وناهزت المئات، ورواها المحدّثون والمفسرون والمتكلمون في مقام بيانهم لطهارة آل البيت‏ (عليهم السَّلام) وأن الآية الشريفة نزلت في هؤلاء الخمسة مورد النص القطعي آنذاك دون نساء النبيّ كما يدّعي من لا خبرة له بفقه القرآن وأحاديث السنّة المطهّرة.
وقد أتعب العلاّمتان الجليلان الشيخ التستري والسيد النجفي المرعشي «عليهما رضوان اللَّه تعالى» نفسيهما بجمع المصادر العامية التي جاء فيها أن الآية نزلت في العترة الطاهرة دون غيرهم فلتُراجع.
وقد روى الحافظ الكبير عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن أحمد المعروف بالحاكم الحسكاني الحذّاء الحنفي «من أعلام القرن الخامس الهجري» فوق المائة وستين حديثاً بطرق متعددة وصحيحة أن الآية نزلت بهؤلاء الخمسة (عليهم السَّلام) مما يدل بالدلالة القطعية صحة هذه الأخبار بحيث لا ينكرها إلا مكابر للوجدان والفطرة السليمة.
ولا بأس هنا بالتطرق إلى ذكر بعض الأخبار من مصادر القوم للإشارة إلى ما قلناه، فمنها:
1 ـ ما رواه الواحدي في أسباب النزول بأسانيد متعددة عن عمّار بن محمد الثوري قال أخبرنا سفيان عن أبي الحجاف عن عطية عن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى: إنما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت.. قال نزلت في خمسة: في النبي‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين‏ (عليهم السَّلام).
2 ـ وعن عطاء بن أبي رباح قال حدثني من سمع أم سليم تذكر: أن النبيّ كان في بيتها، فأتته فاطمة رضي اللَّه عنها ببرمة  فيها خزيرة ، فدخلت بها عليه، فقال لها: ادعي لي زوجك وابنيك، قالت: فجاء عليٌّ والحسن والحسين، فدخلوا فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة وهو على منامة له  وكان تحته كساء حبري قالت: وأنا في الحجرة أصلي، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية إنما يريد... قالت: فأخذ فضل الكساء فغشاهم به، ثم أخرج يديه فألوى بهما إلى السماء ثم قال اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، قالت: فأدخلت رأسي البيت وقلت: أنا معكم يا رسول اللَّه، قال إنك إلى خير، إنك إلى خير» وكررها مرتين.
3 ـ ما أورده الحاكم الحسكاني بطرق كثيرة جداً عن:
أ_  العوام بن حوشب قال حدثني ابن عم لي من بني الحارث بن تيم اللَّه يقال له مجمع قال دخلت مع أمي على عائشة فسألتها أمي، قالت: أرأيت خروجك يوم الجمل؟ قالت: إنه كان قدراً من اللَّه، فسألتها عن عليّ فقالت: تسأليني عن أحبّ الناس كان إلى رسول اللَّه، وزوج أحبّ الناس كان إلى رسول اللَّه لقد رأيت علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، وجمع رسول اللَّه بثوب عليهم ثم قال اللهم إنّ هؤلاء أهل بيتي وحامّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فقلت: يا رسول اللَّه أنا من أهلك؟ قال تنحي فإنك إلى خير.
ب_ وعن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى: إنما يريد اللَّه ليذهب... قال جمع رسول اللَّه علياً وفاطمة والحسن والحسين، ثم أدار عليهم الكساء فقال هؤلاء أهل بيتي اللهم اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
ج _  وعن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري عن نبي اللَّه قال نزلت هذه الآية وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ قال: كان يجي‏ء إلى باب علي تسعة أشهر كل صلاة غداة ويقول: الصلاة رحمكم اللَّه «إنما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً».
د _ عن واثلة بن الأسقع قال
واللَّه لا أزال أحبُّ عليّاً وحسناً وحسيناً وفاطمة بعد إذ سمعت رسول اللَّه يقول فيهم ما قال، لقد رأيتني يوماً وقد جئت رسول اللَّه في منزل أم سلمة، فجاء الحسن فأجلسه على فخذه اليمنى ثم جاء الحسين فأجلسه على فخذه اليسرى وقبّلهما، ثم جاءت فاطمة فأجلسها بين يديه، ودعا بعليّ فأغدّ عليهم كساءاً خيبرياً، كأني أنظر إليه ثم قال «إنما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً» قال شداد لواثلة: وما الرجس؟ قال الشك في دين اللَّه.
4 ـ وأورد ابن كثير الدمشقي في تفسيره عن أحمد بن حنبل بسند معنعن عن أم سلمة قالت: بينما رسول اللَّه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في بيتي يوماً إذ قالت أن فاطمة وعلياً رضي اللَّه عنهما بالسدة، قال رسول اللَّه: قومي فتنحي عن أهل بيتي، قالت: فقمت فتنحيت في البيت قريباً، فدخل عليٌّ وفاطمة ومعهما الحسن والحسين رضي اللَّه عنهم وهما صبيان صغيران، فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبّلهما واعتنق علياً رضي اللَّه عنه بإحدى يديه وفاطمة رضي اللَّه عنها باليد الأخرى، وقبّل فاطمة وقبّل علياً وأغدق عليهم خميصة سوداء وقال:
«اللهم إليك لا إلى النار أنا وأهل بيتي» قالت: فقلت وأنا يا رسول اللَّه؟ قال‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): وأنت.
ومن طريق آخر قال ابن جرير حدثنا أبو كريب عن الحسن‏  بن عطية عن فضل‏  بن مرزوق عن عطية عن ابي سعيد عن أم سلمة قالت: إن هذه الآية نزلت في بيتي )إنما يريد اللَّه ليذهب...( قالت: وأنا جالسة على باب البيت، فقلت: يا رسول اللَّه ألستُ من أهل البيت؟ فقال‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): إنك إلى خير، أنت من أزواج النبيّ، قالت: وفي البيت رسول اللَّه وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين رضي اللَّه عنهم.
وعن عطية عن أبي سعيد الخدري قال
قال رسول اللَّه: نزلت هذه الآية في خمسة: فيَّ وفي عليّ والحسن والحسين وفاطمة )إنما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت..(.
كما أخرج ابن كثير عن مسلم في صحيحه قال حدثني زهير  بن حرب بسند إلى يزيد  بن حبّان قال انطلقت أنا وحصين‏  بن سبرة وعمر  بن مسلمة إلى زيد  بن أرقم، فلما جلسنا إليه، قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً رأيت رسول اللَّه وسمعت منه حديثاً، وغزوت معه وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول اللَّه.
قال: يا ابن أخي واللَّه لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول اللَّه فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلفوا فيه، ثم قال: قام فينا رسول اللَّه يوماً خطيباً بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة فحمد اللَّه وأثنى عليه ووعظ ثم قال:
أما بعد ألا أيُّها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب اللَّه تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب اللَّه واستمسكوا به، فحثّ على كتاب اللَّه عزّ وجلّ ورغّب فيه ثم قال وأهل بيتي، أذكركم اللَّه في أهل بيتي، أذكركم اللَّه في أهل بيتي ثلاثاً.
فقال له حصين: ومَنْ أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟
قال: لا وايم اللَّه أن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.
5 ـ وعن شداد بن أبي عمّار قال إني لجالس عند واثلة  بن الأسقع إذ ذكروا علياً رضي اللَّه عنه فشتموه، فلما قاموا، قال اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموه إني عند رسول اللَّه إذ جاء عليٌّ وفاطمة وحسن وحسين رضي اللَّه عنهم فألقى‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عليهم كساءً له ثم قال اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وأهل بيتي أحق.
وعن أحمد بن حنبل عن عفّان بسند إلى أنس‏  بن مالك قال:
إن رسول اللَّه كان يمر بباب فاطمة رضي اللَّه عنها ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: «الصلاة يا أهل البيت، إنما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً.
قال الترمذي: هذا حسن غريب. وقال الحاكم النيسابوري: هذا صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه.
وهناك طائفة كثيرة جداً من الروايات تشير إلى أن الرسول الأكرم كان يطرق باب الصدّيقة الطاهرة عند الصلاة ويقول: الصلاة يرحمكم اللَّه إنما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً.
فعن أبي الحمراء قال:
شهدت النبي ثمانية أو عشرة أشهر إذا خرج إلى الصلاة أو إلى الغداة مرّ بباب فاطمة فيقول: السلام عليكم ورحمة اللَّه، الصلاة أهل البيت إنما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ورحمكم اللَّه.
6 ـ وأخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت: نزلت هذه الآية في بيتي، وفي البيت سبعة: جبرائيل وميكائيل وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وأنا على باب البيت، قلت: يا رسول اللَّه ألستُ من أهل البيت؟
قال: إنك إلى خير، إنك من أزواج النبيّ.
فكل المصادر العامية تشير إلى أن الآية نزلت في عترة النبيّ إلاّ ما شذَّ منهم كعكرمة وابن عبّاس، وعروة  بن الزبير ومقاتل‏  بن سليمان حيث قالوا: إن الآية نازلة في نساء النبيّ، وروى السيوطي في الدر المنثور والواحدي في أسباب النزول حديثاً عن عكرمة حيث قال خلال تفسيره لآية التطهير:
«ليس بالذي تذهبون إليه، إنما هو نساء النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)ف.
وكان عكرمة ينادي هذا في السوق، ويقول: من شاء باهلته أنها نزلت في نساء النبيّ.
ووافق عكرمة وأمثالَهُ ثلةٌ من علماء العامة منهم:
الآلوسي في تفسيره قال
«والذي يظهر لي أن المراد بأهل البيت من لهم مزيد علاقة به‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ونسبة قوية قريبة إليه عليه الصلاة والسلام بحيث لا يقبح عرفاً اجتماعهم وسكناهم معه في بيت واحد، ويدخل في ذلك أزواجه والأربعة أهل الكساء وعليٌّ)كرّم اللَّه وجهه( مع ما له من القرابة من رسول اللَّه قد نشأ في بيته وحجره عليه الصلاة والسلام، فلم يفارقه وعامله كولده صغيراً، وصاهره وآخاه كبيراً».
وهكذا جرى على منواله الزمخشري  والرازي لكنَّ الثاني قال:
«والأولى أن يقال هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعليٌّ منهم لأنه كان من أهل بيته بسبب معاشرته ببنت النبيّ عليه السلام وملازمته للنبيّ».
وقد ابتنى استدلالهم لهذا الرأي على عدة وجوه:
 الوجه الأول:
أن بعض الروايات التي رواها عكرمة وابن عباس وعروة بن الزبير أشارت إلى نزول الآية في نساء النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).

 وجوابنا عليه:
 أولاً: إن الروايات المروية بطريق عكرمة وعروة وابن عباس آخبار آحاد لا تنهض دليلاً على المدّعى ولا تقاوم الروايات المتواترة المروية بطرق صحيحة وعالية، فلو دار الأمر بين طائفة الآحاد من الأخبار وبين طائفة المتواتر منها لرجّحنا المتواترة على الآحادية، وهذا متفق عليه عند عامة علماء الرجال، ومن فعل العكس فهو أرعن لا يفقه شيئاً من علم الرجال ومعايير التعادل والتراجيح.
 ثانياً: إن الأخذ بهذا الوجه يستدعينا إلى تقييم موضوعي لآراء عكرمة وأقواله، ودوافعه النفسية فيها، فالرجل معروف بانتمائه إلى الخوارج، وللخوارج موقف معروف مع أمير المؤمنين عليّ‏ (عليه السَّلام)، فلو التزم بنزول الآية في أهل البيت بما فيهم الإمام عليّ، لكان عليه القول بعصمته، ولأهار على نفسه أُسس عقيدته التي سوّغت لهم الخروج عليه ومقاتلته، وبررت لهم قتله.
فعكرمة خارجي المعتقد، معروف بعدائه للإمام عليّ وبتكفيره له‏ (عليه السَّلام). وقد اشتُهر بكذبه على مولاه ابن عبّاس، وكان الموالي يحذّرون عبيدهم من الكذب عليهم، ويتمثلون بكذب عكرمة على مولاه حتى كان يضرب المثل فيه، وهذا سعيد  بن المسيب يقول لغلامه  واسمه برد  «يا برد لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عبّاس، وعن ابن عمر قال ذلك أيضاً لمولاه نافع».
ويشهد لما قلنا من أنه كان أباضياً وكذّاباً جسوراً كلماتُ علماء الجرح والتعديل فيه، فها هو الذهبي يفيض كتابُه بذكر مثالب عكرمة حيث قال «عكرمة، مولى ابن عباس، وثقه جماعة واعتمده البخاري، وأما مسلم فتجنّبه، وروى له قليلاً، وأعرض عنه مالك وتحايده إلاّ في حديث أو حديثين.
قال عنه يحيى بن سعيد الأنصاري: إنه كذّاب...
وفي آية التطهير دلالة واضحة على وجوب عصمة أهل البيت عليهم السلام والعصمة بدورها دليلٌ قطعيٌّ على ثبوت الخلافة الإلهية ،وقد بسطنا فيها البحث في كتابنا "أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد"فليُراجع ففيه مغانم كثيرة.
  إلى هنا إنتهينا من القسم الأول وهو الآيات الدالة على إثبات خلافة أمير المؤمنين عليه السلام،وأما الفسم الثاني وهو الأخبار الدالة على ذلك فهي كثيرة جداً فلم يسعفنا الوقت لذكرها ولكننا نحيل القارىء الفطن إلى كتابنا"أبهى المداد"وكتابنا الآخر"الفوائد البهيَّة في شرح عقائد الإماميَّة"...وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وسلام على المرسلين محمد وآله الطاهرين عليهم السلام..والسلام عليكم ورحمته وبركاته/العبد الفقير إلى عفر ربّه وشفاعة أوليائه الطاهرين/ محمَّد جميل حمُّود العاملي/بيروت.
 

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2010/02/26   ||   القرّاء : 15760




أحدث البيانات والإعلانات :



 لقد ألغى سماحة لمرجع الديني الكبير فقيه عصره آية الله الحجّة الشيخ محمّد جميل حمّود العاملي ( دام ظلّه الوارف ) كلّ الإجازات التي منحها للعلماء..

 الرد الإجمالي على الشيخ حسن المصري..

 بيان تحديد بداية شهر رمضان المبارك لعام 1443 هجري / 2022 ميلادي

 الرد الفوري على الشيخ البصري

 إحتفال الشيعة في رأس السنة الميلاديّة حرام شرعاً

 بيان تحديد بداية شهر رمضان المبارك لعام 1441 هجري / 2020 ميلادي

 بيان هام صادر عن المرجع الديني آية الله الشيخ محمّد جميل حمُّود العاملي

البحث في القسم :


  

جديد القسم :



 هل كان أمير المؤمنين عليٌّ صلّى الله عليه وآله موجوداً مع رسول الله صلى الله عليه وآله في الإسراء والمعراج..؟

 ما هو حكم الدم المعفى عنه في الصلاة..وكم هو مقداره..؟

 حكم الرعاف في شهر رمضان...

 البتريون كالنواصب نجسون دنسون..

 هل الملعون نجس؟

 تحية السلام على المصلي...

 حكم العدول من سورة الى سورة في الصلاة الواجبة..

ملفات عشوائية :



 أحكام شرعية مهمة في أيام محرّم الحرام

 عقوبة إغتصاب المرأة / حكم مقدمات الزنا/ خالد بن يزيد بن معاوية ملعون بخلاف أبيه معاوية بن يزيد

 العلَّة في سقوط الحدود في عصر الغيبة الكبرى وعدم سقوط تشريع الخمس

 ممارسة النكاح ومقدماته بعد إنتهاء المدة المعينة حرام شرعاً وهو من الزنا ومقدماته

 محاضرة حول الصدقة (حديث المنزلة..وكل الانبياء أوصوا الى من يخلفهم..)

 لا يصح إطلاق كلمة "عشق" على آل محمد صلوات الله عليهم.

  صوم ستة أيام بعد عيد الفطر مِن بدع المخالفين/ أخبارنا الشريفة نهت عن هذا الصوم

جديد الصوتيات :



 الإيراد على الوهابيين غير المعتقدين بالتوسل بالأنبياء والأولياء من آل محمد عليهم السلام - ألقيت في عام 2008 ميلادي

 محطات في سيرة الإمام محمّد الجواد عليه السلام - 26تموز2007

 محاضرة حول الصدقة (حديث المنزلة..وكل الانبياء أوصوا الى من يخلفهم..)

 السيرة التحليليّة للإمام علي الهادي عليه السلام وبعض معاجزه

 لماذا لم يعاجل الإمام المهدي (عليه السلام) بعقاب الظالمين

 المحاضرة رقم ٢:( الرد على من شكك بقضية إقتحام عمر بن الخطاب لدار سيّدة الطهر والقداسة الصديقة الكبرى فاطمة صلى الله عليها)

 المحاضرة رقم 1:(حول ظلامات الصدّيقة الكبرى..التي منها إقتحام دارها..والإعتداء عليها ارواحنا لشسع نعليها الفداء والإيراد على محمد حسين..الذي شكك في ظلم أبي بكر وعمر لها...)

إحصاءات :

  • الأقسام الرئيسية : 11

  • الأقسام الفرعية : 36

  • عدد المواضيع : 2195

  • التصفحات : 19208499

  • المتواجدون الآن : 1

  • التاريخ : 28/03/2024 - 08:23

||   Web Site : www.aletra.org   ||   
 

 Designed, Programmed & Hosted by : King 4 Host . Net