إقامة الحدود والتعزيرات لا يقيمها إلا المعصوم عليه السلام أو نائبه الخاص الذي يعينه في زمان حضوره الشريف
الإسم: *****
النص:
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم
مولانا سماحة المرجع الديني الكبير اية الله العلامة المحقق الفقية الشيخ محمد جميل حمود العاملي دام ظله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سماحة المرجع دمتم بالعز والهنا
ارفع الى مقامكم العالي السؤال والاستفسار الاتي ونأمل من سماحتكم الاجابة والتوضيح والتوجيه في الفهم
سؤال عن الحديث الوارد في الكافي في الفروع ج3 - كتاب الحدود - باب المجنون والمجنونة يزنيان - ح3- عن مولانا الامام الصادق عليه السلام «إِذَا زَنَى الْمَجْنُونُ أَوِ الْمَعْتُوهُ جُلِدَ الْحَدَّ وَإِنْ كَانَ مُحْصَناً رُجِمَ» . قُلْتُ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَجْنُونِ وَالْمَجْنُونَةِ وَالْمَعْتُوهِ وَالْمَعْتُوهَةِ فَقَالَ «الْمَرْأَةُ إِنَّمَا تُؤْتى وَالرَّجُلُ يَأْتِي وَإِنَّمَا يَزْنِي إِذَا عَقَلَ كَيْفَ يَأْتِي اللَّذَّةَ وَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِنَّمَا تُسْتَكْرَهُ وَيُفْعَلُ بِهَا وَهِيَ لَا تَعْقِلُ مَا يُفْعَلُ بِهَا)
السؤال. هل مولانا الامام الصادق عليه السلام حكم على المجنون الزاني باقامة الحد عليه رغم جنونة وغياب عقله
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الموضوع الفقهي: إقامة الحدود والتعزيرات لا يقيمها إلا المعصوم عليه السلام أو نائبه الخاص الذي يعينه في زمان حضوره الشريف / إقامة الحدّ على الزاني مشروط بأمور / خبر أبان بن تغلب الدال على وجوب إقامة الحد على المجنون يتعارض مع الأخبار الأخرى / وجه الجمع بين الأخبار / معالجتنا لخبر أبان بن تغلب.
بسمه تعالى
الجواب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نحن لا نقول بوجوب إقامة الحدود في غيبة الإمام الحجة القائم أرواحنا فداه، بل الظاهر لدينا التوقف والإشكال في إقامتها من دون إذنه؛ ذلك لأن إقامتها مشروط بوجود المعصوم وحضوره عليه السلام، والفقهاء العدول لا يقومون مقامه في تنفيذها حال كونه غائباً عنهم؛ لأن تنفيذ الحدود يعتبرتصرفاً خاصاً به عليه السلام وهو من مختصاته التي لا يجوز أن يشاركه فيها أحدٌ على الإطلاق، كما أن تنفيذ الحدود حال غيابه عليه السلام بحاجة إلى دليلٍ، وهو مفقود في لسان الأدلة، وهو ما أوضحناه في كتابنا المبارك الموسوم بـ"ولاية الفقيه العامة في الميزان "؛ فإقامة الحدود والتعزيرات خاصة بالإمام عليه السلام وبمن نصبه الإمام عليه السلام حال حضوره الشريف وهو ما يسمى بنائبه الخاص، والفقهاء العدول في عصر الغيبة ليسوا نواباً خاصين بل هم وكلاء في بيان الأحكام وتبليغها للمكلّفين، ولا علاقة لهم بإقامة الحدود حال غيبته المقدسة، ومن يقول بغير ذلك ينفخ في غير ضرام ونعتبره هواءً في شبك ودونه خرط القتاد؛ ولكنّ جوابنا على سؤالكم لا بدَّ منه من باب قولهم سلام الله عليهم:" حديث تدريه خيرٌ من ألف حديث ترويه" ؛ وبناءً عليه نقول:
يشترط في ثبوت الحد الشرعي على الزاني أمور:
الأمر الأول: البلوغ فلا حدَّ على الصبي وذلك لرفع القلم عنه بمقتضى الأخبار الكثيرة الدالة على سقوط إقامة الحد عليه فيما لو زنى.
الأمر الثاني: الاختيار، فلا حد على المكره وذلك لسقوط التكليف عن المكره، وقد ورد بحقه عدة روايات تنهى عن إقامة الحد عليه .
الأمر الثالث: العقل، فلا حدَّ على المجنون...وذلك لأنه بلا عقل وإدراك، والحدود تقام على العاقل المدرك لا على المجنون الفاقد لعقله وإدراكه، ولم يختلف الأصحاب على ذلك في المجنون المطبق، فسقوط الحد عنهما هو المشهور شهرة عظيمة بين الأعلام قديماً وحديثاً، ونسب الخلاف في ذلك إلى المفيد والطوسي والصدوق والقاضي وابن سعيد، فهؤلاء ذهبوا إلى وجوب الحد على المجنون والمعتوه واستدلوا بخبر أبان بن تغلب المروي في الكافي /باب الحدود قال: قال أبو عبد الله عليه السلام:" إذا زنى المجنون أو المعتوه جلد الجلد وإن كان محصناً رجم، قلت وما الفرق بين المجنون والمجنونة...." إلى آخر الرواية التي ذكرتموها في سؤالكم.
والرواية ضعيفة السند على بعض المباني الرجالية، فإن في سندها ابراهيم بن الفضل وهو لم يرد فيه توثيق ولا مدح، ولكنه بحسب مبنانا الرجالي ثقة لرواية الثقة عنه، وهو عمرو بن عثمان، إلا أن ذلك لا يكفي في التفرد بالرواية المذكورة لجهتين:
الأولى: باعتبارها من أخبار الآحاد التي لا يعمل بها المشهور؛ وعدم عملهم بها يوهنها، وبالتالي تسقط عن الحجية.
الثانية: لمعارضتها للأخبار الصحيحة الرافعة عن المجنون الحد إلا أن نحمل الحد عليه فيما لو كان جنونه أدوارياً، فزنى عند صحوته، أو لعلَّ جنونه غير مانعٍ من معرفة الجماع فيعاقب على المعرفة الجزئية وهو ما عبّر عنه الإمام الصادق عليه السلام في الرواية الآنفة الذكر بقوله الشريف:" وإنما يزني إذا عقل كيف يأتي اللذة". ونحمل التعقل هنا على المجنون الأدواري لا المطبق، أي نحمل تعقل المجنون للذة في حال كان جنونه أدوارياً لا مطبقاً، فالمجنون الأدواري هو من يعقل فنون الجماع ومن أين يباشر المرأة لا المجنون المطبق...فهذا لوحده كافٍ في وجوب إقامة الحد عليه لأنه زنى حال صحوته لا حال جنونه، والرواية أشارت إلى الجنون الأدواري لا المطبق...وبهذا نكون قد حملنا زنى المجنون على التعقل بالحماع حال زناه، والله العالم.
وبعبارة فقهية أخرى: صحيح أن الخبر أعرض عنه المشهور، وإعراضهم عن خبر صحيح السند يوجب وهنه إلا أنه مجبور بعمل بعض الأصحاب حيث حكي عن المفيد في العويص العمل به كغيره ممن وافقه في ذلك، ولكن عملهم به يبقى في دائرة ضيقة، فتتقوّى الندرة الموهنة التي قال بها المشهور. فينبغي الرجوع في هذه الحال إلى الأُصول العامّة ، مثل حديث رفع القلم عن المجنون حتّى يفيق، وبه استدلّ مولانا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على عمر حين أمر بحدّ المجنونة فيما رواه المفيد في إرشاده ، فقال ( عليه السلام ) : أما علمت أنّ هذه مجنونة ، وأنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : رفع القلم عن المجنون حتّى يفيق ، وأنّها مغلوبة على عقلها ونفسها فردّوها ، فدرأ عنها الحدّ ".
وخصوصيّة المورد بالمجنونة مدفوعة بعموم التعليل الشامل للمجنون أيضاً ، مضافاً إلى عموم خصوص بعض النصوص : لا حدّ على مجنون حتّى يفيق ، ولا على صبيّ حتّى يدرك ، ولا على النائم حتّى يستيقظ .
وفي الصحيح:" لا حدّ لمن لا حدّ عليه ، يعني لو أنّ مجنوناً قذف رجلاً لم أرَ عليه شيئاً ، ولو قذفه رجل فقال : يا زان لم يكن عليه حدّ" . ونحوه الموثق وغيره .
وهي أخبار ظاهرة أيضاً في رفع الحدّ عنه على العموم؛ ومع كلّ هذا لا يجوز رد الخبر لمجرد إعراض المشهور عنه، بل لا بد من الأخذ به مع تأويله جمعاً بينه وبين الأخبار الناهية عن إقامة الحد على المجنون الزاني؛ ووجه الجمع بين رواية أبان بن تغلب وبين الأخبار الأخرى الدالة على أن حكم المجنون هو نفسه حكم المجنونة، يُرفع عنه الحد لأنه لا يملك أمره ولا يعرف الخير من الشر ولا يؤاخذ بشيء من أفعاله لسقوط التكليف عنه، هو أن تكون رواية أبان كاشفة عن تعقل المجنون لفنون الجماع أو كما عبرت الرواية" وإنما يزني إذا عقل كيف يأتي اللذة "؛ ونحمل الأخبار الأخرى على ما لو لم يعقل الدخول ولكنه دخل بالمرأة من دون تعقل باللذة؛ وهو الجنون المطبق.
وبعبارة أخرى: بعد الغض عن صحة السند عند بعضهم، نحمل إقامة الحد على المجنون الذي يفيق من جنونه فيزني؛ لأن العلة التي ذكرها الإمام - عليه السلام - تدل عليه؛ وقد قسم الفقهاء المجنون: إلى مطبق لا يفيق ولا يهتدي شيئاً فلا شيء عليه ، وإلى من يصح منه القصد إلى الزنا فيجلد مائة إذا كان أعزباً وأقيم عليه الحد إذا كان محصناً.
والحاصل: إن هذه الرواية ــ بالغض عن سلامة سندها ــ مشعرة بكون المجنون حالة الفعل عاقلاً؛ إمَّا لكون الجنون يعتريه أدواراً أي على فترات متقطعة، أو لغيره كما يدل عليه التعليل في الرواية؛ وبمعنى آخر: لعل المراد بالمجنون هنا من يعتوره الجنون إذا زنى بعد ما عقل ــ أي زناه جاء بعد الصحو من الجنون ــ كما يشعر به قوله ( ع ) وإنما يزني إذا عقل .
والله العالم... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حررها العبد الفقير محمد جميل حمود العاملي
بيروت بتاريخ 19 ربيع الثاني 1436هـ.