تفسير خبر اليهودي الذي سلّم على رسول الله صلى الله عليه وآله بالسام اي الموت...الخبر يشير إلى مسألة البداء وفضل الصدقة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ورد في كتاب الكافي حديث عن علي بن ابراهيم عن ....عن أبي الله عليه السلام قال :
مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وآلة. فقال السام عليك فقال النبي صلى الله عليه وآلة. عليك إلى آخر الحديث.
هل هذا الحديث صحيح .
ان العلماء يفسرون . عندما اخبر النبي صلى الله عليه وآلة بان اليهودي يقتله اسود ، ولم يحدث ذلك .
هل هذا خطأ و زلة كما يفسرون . اذا كان النبي صلى الله عليه وآلة يخطئ وله زلات فهناك مشكلة في العقائد الأمامية.
اذا تفضلت علينا بتفسير الحديث والتصويب وجزاكم الله خيرا
السيد علي الحسيني
*****
الموضوع العقائدي:(تفسير خبر اليهودي الذي سلّم على رسول الله صلى الله عليه وآله بالسام اي الموت...الخبر يشير إلى مسألة البداء وفضل الصدقة...).
بسم الله جلّت عظمته
وعليكم السلام ورحمته وبركاته
الجواب:جاء في أصول الكافي ج 2 ص 648 ح 1 :بَابُ التَّسْلِيمِ عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ:
1 - عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيه عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ دَخَلَ يَهُودِيٌّ عَلَى رَسُولِ اللَّه ص وعَائِشَةُ عِنْدَه فَقَالَ السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَ : رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وآله: عَلَيْكُمْ ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَرَدَّ عَلَيْه كَمَا رَدَّ عَلَى صَاحِبِه ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَرَدَّ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وآله كَمَا رَدَّ عَلَى صَاحِبَيْه فَغَضِبَتْ عَائِشَةُ فَقَالَتْ عَلَيْكُمُ السَّامُ والْغَضَبُ واللَّعْنَةُ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ يَا إِخْوَةَ الْقِرَدَةِ والْخَنَازِيرِ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وآله يَا عَائِشَةُ إِنَّ الْفُحْشَ لَوْ كَانَ مُمَثَّلاً لَكَانَ مِثَالَ سَوْءٍ إِنَّ الرِّفْقَ لَمْ يُوضَعْ عَلَى شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا زَانَه ولَمْ يُرْفَعْ عَنْه قَطُّ إِلَّا شَانَه قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّه أمَا سَمِعْتَ إِلَى قَوْلِهِمْ السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَ بَلَى أمَا سَمِعْتِ مَا رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ قُلْتُ عَلَيْكُمْ فَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ مُسْلِمٌ فَقُولُوا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وإِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ كَافِرٌ فَقُولُوا عَلَيْكَ .
وذكره الكافي في نفس الكتاب باب البذاء والفحش..وروي أيضاً في أبواب أخرى منها ما رواه عن سالم بن مكرم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال السام عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عليك ، فقال أصحابه إنما سلم عليك بالموت قال الموت عليك ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك رددت ثمَّ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن هذا اليهودي يعضه أسود في قفاه فيقتله ، قال : فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله ثمَّ لم يلبث أن انصرف فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضعه فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود فقال لليهودي أي شيء عملت اليوم فقال : ما عملت عملاً إلا حطبي هذا حملته فجئت به وكان معي كعكتان ( والكعك معرب ( كاك ) وهو الخبز اليابس أو الأعم ) فأكلت واحدة وتصدقت بواحدة على مسكين فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها دفع الله عنه ، وقال : إن الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان ..) وروى العامة أيضا قريباً منه .
وأول أخباره صلَّى الله عليه وآله وسلم بأنه يعضه أسود، أي يريد أن يعضه كما في رؤيا إبراهيم عليه وعلى نبينا السلام « إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ : أَنِّي أَذْبَحُكَ » أي أريد ذبحك ( أو ) يعضه أسود لولا - الصدقة ونحوها، وفي هذا الخبر لطف وإعجاز في رغبة المكلفين إلى الصدقة مع رؤيتهم أسباب القتل .
ومثله ما رواه في الصحيح ، عن الحسن بن الجهم قال : قال أبو الحسن عليه السلام لإسماعيل بن محمد وذكر له أن ابنه تصدق عنه قال : إنه رجل ، قال : فمره أن يتصدق ولو بالكسرة من الخبز ثمَّ قال : قال أبو جعفر عليه السلام إن رجلاً من بني إسرائيل كان له ابن وكان له محبا فأتي في منامه فقيل له إن ابنك ليلة يدخل بأهله يموت ، قال : فلما كان تلك الليلة وتبني عليه أبوه ( أي زفه العروس ) توقع أبوه ذلك فأصبح ابنه سليما فأتاه أبوه ، فقال يا بني : هل عملت البارحة شيئاً من الخير ؟ قال: لا، إلَّا أن سائلاً أتى الباب وقد كانوا ادخروا لي طعاما فأعطيته السائل، فقال: بهذا دفع ( الله - خ ) عنك .
وقريب منه ما رواه ، عن الحسن بن علي الوشاء عن أبي الحسن الرضا عليه السلام وفي الخبر عن سدير، عن الإمام أبي جعفر عليه السلام قال: إن الصدقة لتدفع سبعين بلية من بلايا الدنيا مع ميتة السوء ، إن صاحبها لا يموت بميتة السوء أبداً مع ما يدخر لصاحبها في الآخرة.
وعن محمد بن مسلم قال : كنت مع أبي جعفر عليه السلام في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسقط شرف ( شرفة - خ ) من شرف المسجد فوقعت على رجل فلم يضره وأصابت رجله فقال أبو جعفر عليه السلام : سلوه أي شيء عمل اليوم فسألوه فقال : خرجت وفي كمي تمر فمررت بسائل فتصدقت عليه بتمرة ، فقال أبو جعفر عليه السلام بها دفع الله عنك.
وهذا الكلام في علم الله كان مقيداً بالشرط وهو الموت المقيَّد بعدم التصدق؛ والنبيُّ صلوات ربي عليه وآله مع هذا القيد صادق كصدق القضية الشرطية في علم المنطق[ إذا اشرقت الشمسُ فالنهار موجودٌ] وكذلك الحال هو صادق في القضية الشرطية النبوية والولوية بما معناه:[ إذا تصدقت زاد رزقُك وطال عمرُك] ، والمخبر به من الله عزّ وجلّ صادق لأنه مأمور بتبليغه وعدم وقوع متعلقه، وانتفاء الشرط المقيد(اي الموت المقيَّد بعدم التصدق)، لا ينافي صدقه . نعم فيه دلالة على أن الأنبياء ( عليهم السلام ) لا يعلمون جميع أسرار القدر ..كما ادَّعى بعض العلماء، ولا يبعد أن يكون الغرض من أمرهم بتبليغ أمثال ذلك أن يظهر للخلق أن لله تعالى علوماً لا يعلمها إلّا هو ، والله أعلم ( وعلم عنده مخزون يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ويثبت ما يشاء ) باختياره وإرادته إن كان لكل واحد من التقديم والتأخير والإثبات مصلحة تقتضيه وهذا هو المراد بالبداء هنا . توضيح ذلك أن الله سبحانه عالم في الأزل بالأشياء ومنافعها ومصالحها فإذا كان لشيء مصلحة في وقت من وجه وفي وقت من وجه آخر إن شاء قدمه وإن شاء أخره وكذا إذا كان لشيء مصلحة في وقت دون وقت آخر بيّنه في ذلك الوقت بإرادته وعلمه في الأزل بإثباته في ذلك الوقت وتقديمه وتأخيره على حسب الاختيار ، والإرادة الحادثة لا ينافي الاختيار والقدرة بل يؤكدهما ولا يوجب تغيير علمه أصلاً وإنما يوجب تغييره لو علم أنه يؤخره ولا يثبته مثلاً فقدمه وأثبته .
وبعبارة أخرى موجزة: قال الفاضل الأسترآبادي في حل هذا الكلام وعلم عنده مخزون أي مقدر في اللوح المحفوظ أولاً على وجه ثم يغير ذلك إلى وجه آخر لمصلحة حادثة وهذا هو البداء في حقه تعالى . وقال الفاضل الشوشتري في حله : ولعله إنما يستقيم البداء فيه ويرتفع العبث ولا يتطرق شبهة التغير في علمه إذا قلنا بإثبات مخزونه في موضع واطلع عليه أحد ولم يجز له إظهاره وأنه اطلع بعض الناس عليه كما سيجيء ما يفهم منه ذلك.. انتهى.
وقد بحثنا بإسهاب حول عقيدة الشيعة في البداء في الجزء الأول من كتابنا الجليل "الفوائد البهية في شرح عقائد الإمامية" في عدة نقاط مهمة يجب على كلّ شيعي يريد معرفة الصواب في هذه المسألة العقائدية المهمة أن يرجع إلى كتابنا المذكور..ولو قرأ غيرَ كتابنا فإنه سيضيع ويتيه في بطون الكتب التي هي أشبه بالطلاسم الجنيّة..! ومما كتبنا هناك نختصر منه على لمَّة قليلة والباقي فليرجع إليه من يرغب التعمق في العقيدة، فقد عرَّفنا البداء بما يلي:
معنى البداء :
البداء لغةً: على وزن نداء مشتق من الفعل « بدا » من دون همزة فهو بمعنى « ظهر » أو « بان » أو « تجلّى » . ويأتي بمعنى خطور الرأي أو استصواب شيء غير الأول ، ومنه قولهم : فلان ذو بداوة أي لا يزال يبدو له رأي جديد
أما بحسب الاصطلاح : فله معنيان :
الأول: الظهور والوضوح والتجلّي .
الثاني: العلم بعد الجهل أو خطور الرأي في شيء ما .
الأول موافق للذات الإلهية دون الثاني لدلالته على نسبة النقص إلى الباري جلّ وعلا وهو منزّه عنه .
فتحصَّل من هذا أن للبداء معنيين :
الأول: الظهور والعلم بعد الجهل ، أو العلم بالشيء بعد أن لم يكن حاصلاً ، وهذا المعنى للبداء مستحيل عليه تعالى عقلاً ونقلاً وهو ما رفضته الشيعة جملةً وتفصيلاً .
الثاني: الإظهار بعد الإخفاء أي إظهار ما كان مخفيّاً عن العباد لا عنه تعالى فهو محيط بكل شيء ، ولأن هذا المعنى قبيح في حقه تعالى لاستلزامه الجهل المنزّه عنه تعالى .
فيكون الإظهار منه تعالى لا الظهور له، فالإظهار منه يعني القضاء الإلهي على الشيء بحسب ما يستتبعه من مقتضيات وأسباب تحتم بروزه وظهوره خارجاً ، ومنه ما ورد عنهم عليهم السَّلام حيث قالوا :(ما بعث الله نبياً حتى يقرّ له بالبداء ) أي يقرّ له بقضاء مجدّد في كلّ يوم يظهره للعباد بعد أن كان مخفياً عنهم ، وإظهاره لهم بحسب ما يستتبع ذلك من المصالح التي لم تكن ظاهرة لديهم .
ونستدل على المعنى الثاني بوجهين :
الوجه الأول: العقل:حيث يحكم بأنه تعالى لو كان عالماً بالشيء بعد أن كان جاهلاً به لدلّ ذلك على النقص في ذاته فتصير محلاً للحوادث والتغيرات فيخرج من حظيرة الوجوب إلى مكانة الإمكان ، إضافةً إلى أن العلم من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الذات ، فإذا قلنا أنه كان جاهلاً " حاشاه عزّ ذكره " لخلَتْ ذاته من العلم مما يستلزم انفكاك الصفة الذاتية عن الذات وهو مستحيل لأنّ الانفكاك علامة الفقر والحاجة وخلو الذات عن العلم .
الوجه الثاني: النقل :حيث ثبت بالبراهين العقلية والقرآنية أنه تعالى محيط بكل شيء فإن قلنا إنه سبحانه غير عالم ثم علم لكان خلاف ما ورد أنه محيط بكل شيء .
والآيات الدالّة على إحاطة علمه تعالى كثيرة منها :
[ إنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السّماء ] آل عمران : 6 .
[ وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السّماء ] إبراهيم : 39 .
هذا إذا فسرنا البداء بمعنى القدر ، وإن فسرناه بمعنى الإظهار بعد الخفاء فلقوله تعالى :
] فلمّا نبَّأت به وأظهره الله عليه عرَّف بعضه ] [التّحريم : 4 ].
سواء أظهره تعالى عليه في عالم الأرواح أو بعده ، فالمهم أنه سبحانه أطلع رسوله الكريم صلّى الله عليه وآله على أمر كان خافياً عليه .
] ألم ، غُلِبَت الرّوم ، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، في بضع سنين ] [ الرّوم : 2 ـ 5 ] هنا أطلع نبيَّه صلى الله عليه وآله أن الروم سيغلبون بعد سنين .
] ولنبلونّكم حتّى نعلم المجاهدين منكم والصّابرين ونبلوا أخباركم ] [ محمّد : 32 ] سواء فسّرنا كلمة « نعلم » بمعنى نظهر لكم أو نحقّق وجوده خارجاً بما علمناه سابقاً، فالمراد والمعنى واحد هو أننا سنظهر لكم ما كان مخفياً عنكم، وكذا قوله تعالى : [وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون].
ومن النصوص ما ورد :
1 ـ عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله قال: (ونستغفره مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه ، علمٌ غير قاصر وكتاب غير مغادر، ونؤمن به إيمان من عاين الغيوب ووقف على الموعود .
2 ـ ما ورد عن مولانا الإمام الباقر عليه السلام قال :
"كان الله ولا شيء غيره ولم يزل الله عالماً بما كوّن ، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعدما كونه .
3 ـ وما ورد عن منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله تعالى بالأمس ؟ قال : لا . من قال هذا فأخزاه الله . قلت : أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله ؟
قال : بلى قبل أن يخلق الخلق .
4- ما ورد عن مولانا الإمام الكاظم عليه السلام: (لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أنْ يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعدما خلق الأشياء ).
والبداء لا يكون إلَّا في لوح القدر القابل للتغيير والمحو بالأسباب والمقتضيات لحثِّ العباد على التكامل الروحي والنفسي، وقد استفاضت النصوص على أن القدر أو لوح المحو والإثبات ـ الذي دلّ عليه قوله تعالى يمحو الله ما يشاء ويثبت ـ متعلق به تعالى في مقام الفعل الإلهي ، فكل أمر يريده الله تعالى فهو في علمه قبل أن يظهره، والبداء في مقام الفعل لا يستلزم الجهل عند الباري عزّ شأنه وليس مستحيلاً وإنما المستحيل هو القائم في مقام الذات الإلهية لاستلزامه النقص في الذات كما أسلفنا فيما تقدم .
فالبداء الممكن وقوعه هو ظهور الأشياء بالنسبة إلينا لا إليه تعالى، وكما قلنا إنه ظهور منه لنا لا ظهور له تعالى، فالثاني ينكره الشيعة الإمامية أشد الإنكار ، وإنما يقولون بالأول حيث هو عبارة عن التغير في الفعل الإلهي سواء كان تكوينياً أو تشريعياً فلا مانع منه بعد كونه معلوماً له تعالى بأطرافه .
حقيقة البداء :
قد عرفنا أن البداء يقع في القضاء غير المحتوم « القدر » وأما المحتوم منه فلا يتخلّف ، وقد ثبت في الآيات والأخبار أن لله تعالى لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات .
فاللوح الأول: لوح المحو والإثبات المعبّر عنه بالقدر وقد كتب فيه الآجال والأرزاق وجميع ما يكون واقعاً في العالم وهذه الأمور معلّقة على الأسباب والشروط وفي هذا اللوح يقع التغيير والتبديل مثلاً : كتب أنّ عمر زيدٍ عشرون سنة إن لم يصل رحمه ، وإنْ وصل رحمه فعمره ثلاثون سنة ، وإنّ رزق زيد في هذه السنة مائة ألف درهم إن لم يسع السعي الفلاني وإن سعى فيه فرزقه ألف ألف درهم ، وكذلك جميع الكائنات في العسر واليسر ، فهذا اللوح هو نفسه الذي وصف سبحانه به نفسه بأنّه ] كلّ يوم هو في شأن [ " الرحمان / 30 " .
اللوح الثاني: اللوح المحفوظ المعبّر عنه ب" القضاء المحتوم " وكتب فيه الكائنات مع علمه بها منذ الأزل، وهذا العلم المكتوب مطابق لما يقع ولا يتغير ولا يتبدل بوجه من الوجوه لأنّ علمه مربوط بالأسباب والمسببات وهو عالم بوقوع الأسباب أو عدم وقوعها لأنه قد علم أنّ زيداً مثلاً يصل رحمه فيكون عمره كذا ، ويعلم أيضاً أنّ زيداً لن يصل رحمه فعمره كذا في اللوح المحفوظ ، وهكذا بالنسبة إلى سائر الكائنات فهو عالم بمصيرها منذ الأزل وهذا العلم كتبه في اللوح المحفوظ .
وهذا ما ورد في بعض الأخبار لو صحت نسبته من أنه تعالى أمر القلم أن يكتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة ، وجفّ القلم بما فيه فلن يكتب بعد أبداً .
وقد دلَّت النصوصُ على أن لله علمين، علماً علّمه الله ملائكته ورسله، فما علّمه ملائكته ورسله فإنه يكون ولا يكذّب نفسه، ولا ملائكته ولا رسله، وعلماً مخزوناً لم يطلع عليه أحداً من خلقه يقدّم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء .
وقد أجاب علماء الإمامية « رضوان الله تعالى عليهم أجمعين » بالجواب الروتيني حيث حملوا البداء على الأمور الموقوفة على أمره عزّ اسمه، وقالوا إن الرسل والأئمة عليهم السَّلام يعلمون ما في لوح القضاء دون لوح القدر بمعنى أن روح النبيّ أو الوليّ تتصل بلوح المحو والإثبات فتقف على المقتضي دون الشرط أو المانع ، فيخبر عن وقوع شيء ما ولكنه لا يتحقق لأجل عدم تحقق شرطه أو عدم وجود مانعه .
وبعبارة أُخرى:إن النبيَّ أو الوليَّ صلَّى الله عليهما عالم بالمقتضي دون الشرط أو المانع، ويمثِّلون على ذلك بما ورد من حديث العروس التي زارها النبي عيسى عليه السلام وقال لحوارييه أنها تموت من غد ثم لم تمت لأجل صدقة تصدقت بها العروس في ليلتها، وما ورد في قصة الحطّاب اليهودي الذي أخبر عنه النبي صلَّى الله عليه وآله أنه سيموت نتيجة عضة الأفعى له ثم لم يمت .
هذا التعريف ناقصٌ بحقّ النبيّ وأهل بيته الأطهار صلَّى الله عليهم أجمعين ولم يستوعب سعة قابلياتهم التي فاقت قابليات عامة الخلق على الإطلاق حتى الملائكة الكروبيين عليهم السلام..ورد عن آل محمد عليهم السلام قولهم:"إنَّا أهل بيت لا يُقاسُ بنا أحدٌ، فينا نزل القرآن وفينا معدن الرسالة ...". وورد في صيغة أخرى كما في نوادر المعجزات للطبري الشيعي ص 125: قال إمامنا المعظَّم الباقر صلوات الله عليه وآبائه لجابر [من قاس بنا أحداً من البشر فقد كفر ، يا جابر، بنا الله أنقذكم، وبنا هداكم، ونحن والله دللناكم على ربكم، فقفوا عند أمرنا ونهينا ولا تردوا على ما أوردناه عليكم، فإنَّا بنعم الله أجلُّ وأعظم من أن يُردَّ علينا، وجميع ما يردُ عليكم منا، فما فهتموه فاحمدوا الله تعالى عليه، وما جهلتموه فأوكلوه إلينا، قولوا: أئمتنا أعلم بما قالوا. يا جابر، ما ظنكم يقوم أماتوا سنتنا، ونقضوا عهدنا، ونكثوا بيعتنا، ووالوا أعداءنا، وعادوا أولياءنا، وانتهكوا حرمنا، وظلمونا حقنا، وغصبوا إرثنا وأعانوا الظالمين علينا، وأحيوا سنتهم، وساروا بسيرة الفاسقين والكافرين في فساد الدين وإطفاء نور الله.. ].
تعريفنا لمفهوم البداء:
ولكننا نجيب بجواب آخر يختلف عن المألوف والمشهور عند متكلِّمي الإماميّة وبه ننَزِّه الرسلَ أولي العزم لا سيَّما نبينا محمّد وعترته الطاهرة عليهم السلام، فنقول:إنّ النبيَّ والأئمة عليهم السَّلام معادن علم الله تعالى، فعندهم الإحاطة العلمية التامة بقدرة الملك العلاّم، فإذا كان غيرهم من الأنبياء يجهلون ما في لوح القدر فلا يعني هذا قياس النبي وأهل بيته الأطهار(صلوات ربي عليهم) على أولئك الأنبياء عليهم السلام، فآل الله مميزون ومختارون ومصطفون بعلم الله تعالى..فما ورد ( من أن عنده العلم المخزون الذي لم يطلع عليه أحداً من خلقه ) وإنْ كان ظاهره الإطلاق أو الشمول لكنه لا يشمل النبيَّ وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، إذ ما من عام إلَّا وقد خُصّ، وما من مطلق إلَّا وله مقيّد .
فالوليُّ عليه السلام يقف على المقتضي والشرط وأجزاء العلة التامة ولكنه غير مأمور بالكشف عن الشرط لحكمة الدعاء، أو الصدقة، أو لدفع شبهة الغلوّ إذ لو أخبر بشيء بكلّ تفاصيله لاتخذوه ربّاً من دون الله تعالى .
وبعبارة أخرى:إنّ الله عالمٌ بالأمور الموقوفة عنده تعالى التي يقدّم منها ما يشاء ويؤخّر ما يشاء، وقد أعلم وليَّه صلوات ربي عليه بذلك إلَّا أن الوليَّ (صلوات ربي عليه وآله) أخبر بالمقتضي دون شرطه لمصلحة هم أعلم بها منا، وإن شئت قلت: إنهم عليهم السَّلام أخبروا عن الأمر بحسب علته الناقصة مع العلم بعلته التامة ووقوعها أو عدم وقوعها، وخبر المروزي المتقدم وإن كان ظاهره الإطلاق بعدم الاطّلاع على علمه المخزون إلَّا أنَّه يستثنى منه المعصومون عليهم السَّلام الذين اختصهم تعالى بمعدن علمه، إضافةً إلى معارضته بنصوص كثيرة دالّة على أن ما قدّره تعالى من الآجال والأرزاق والخير والشر وكل ما هو قابل للتغيير والتبديل أنزله تعالى على إمام كلِّ عصر في ليلة القدر من كل سنة، ويشهد له ما ورد بالمستفيض من أنهم عليهم السَّلام لولا آية [ يمحو الله ما يشاء ]لأخبروا الناس بما كان وبما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، وهي صريحة في عدم الإذن والرخصة لهم في بروزها كلية للناس لوجود مصلحة في سترها أو مفسدة في كشفها لهم لذا ورد عنهم عليهم السَّلام أنهم قالوا( :لو كانت لألسنتكم أوكية لحدّثت كلّ امرىء بما له وعليه ). أصول الكافي ج 1 ص 264 ح 1.
علاوةً على ذلك: فإنّ الخبرين المتقدِّمين عن النبيِّ محمّد صلَّى الله عليه وآله وعيسى عليه السلام وقصتهما مع الحطّاب والعروس ينسبان الجهل للنبيَّين الكريْمَين بالموضوعات الصرفة، فالأخذ بهما إنّما يتمّ بناءً على عدم حضورية علم الأنبياء - لا سيّما أولو العزم منهم - وشموليته للموضوعات الصرفة، وأما بناءً على حضورية وشمولية علوم النبيّ وأهل بيته الطيبين المطهرين عليهم السَّلام والأنبياء أولي العزم فلا يتم ما ذكروه أصلاً .
ولكنّ التحقيق أنْ يُقال: إنّ مورد الخبرين ليس الموضوعات الصّرفة، بل موردهما هو الموضوعات المستنبطة التي يترتب عليها حكم شرعي، فجهل الأنبياء بها يُعَدُّ قبيحاً عقلاً وشرعاً بمقتضى الأدلّة التي أثبتناها في بحث العصمة في هذا كتابنا"الفوائد البهية في شرح عقائد الإمامية" وفي بحوثنا الأخرى.
فإذا وقفت على معنى البداء الصحيح الذي نعتقده نحن الإمامية فسوف تدرك ضعف ما نسبه الرازي إلينا نحن الشيعة في كتابه "تلخيص المحصّل"صفحة (421)؛ حيث قال: إنّ أئمة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم لا يظفر معهما أحدٌ عليهم :
الأولى: البداء ـ فإذا قالوا : أنه سيكون لهم قوة وشوكة ثم لا يكون الأمر على ما أخبروه قالوا: بدا لله تعالى فيه .
الثانية: التقية ـ فكلما أرادوا شيئاً تكلموا به، فإذا قيل لهم هذا خطأ أو ظهر لهم بطلانه، قالوا: إنما قلناه تقية .
نورد على هذا الخبيث بما يلي:
أولاً:لا ندري من أين أخذ الرازي هذا التفسير للبداء مع أن كتب علماء الإمامية لا سيما المتقدمين منهم كالصدوق والمفيد والطوسي " هؤلاء الثلاثة كانوا متقدمين على الرازي " كتبهم مشحونة بالتبري من البداء المستحيل عليه تعالى ، وكان الأحرى بالرازي أن ينظر هو وأمثاله بعين الإنصاف لا الإعتساف إلى ما قاله الإمامية في عصره أو ما قبله لا سيَّما مع وجود عالم من علماء الإمامية كان معاصراً للرازي في بلدته الري، إضافة إلى أن المسافة بين مدنية الري " التي كان يقطنها الرازي " وقم حدود 170 كيلومتراً فلِمَ لم يتباحث المذكور مع علماء قم قبل أن يصدّر اتهاماته البغيضة على الشيعة .
ثانياً:ليس الشيعة متفردين بالقول بالبداء الصحيح فقد ورد في أخبار العامة ما يدلّ على البداء بالمعنى الذي قالت به الشيعة، فقد رووا أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله قال بشأن الأقرع والأبرص والأعمى: بدا لله عزّ وجلّ أن يبتليهم أي قضى بذلك، وهو معنى البداء ههنا لأنّ القضاء سابق .
ثالثاً:إدعاؤه أنّ الشيعة الإماميّة يأخذون بالتقية مطلقاً، هذا غير صحيح، بل كذب وافتراء، وذلك لأن الشيعة كغيرهم من الشعوب والأمم التي تعمل بالتقية حال خوف الضرر على النفس أو العرض حتى الرازي نفسه يعمل بالتقية حال الخوف، والعمل بها قد شرّعه الله سبحانه في كتابه الكريم وقامت عليه الأدلة العقلية المحكمة، فإنكار مبدأ التقية يعدّ مكابرةً واضحة وتمرداً على الحقِّ بمحض التقليد والعصبية، واتهامه أئمة الشيعة أنهم أطلقوا لشيعتهم العنان بالأخذ بالتقية ما هو إلَّا افتراء واضح وكذب صريح اجترحه المذكور على أئمة الهدى ومصابيح الدجى صلوات ربي عليهم، فالشيعة مجمعةٌ على عدم جواز العمل بالتقية في غير حالات الضرر المتوجه على الأنفس والأعراض .
وقد أسهبنا حول موضوع البداء في كتابنا (ميزاب الرحمة: تحقيق في علامات الظهور الشريف) عندما تطرقنا لمسألة ظهور البداء في العلامات غير المحتومة، فليراجَع ففيه غنائم وفوائد كثيرة بحمد الله تعالى وفضله.
والخلاصة:إن النبيَّ الأعظم صلّى الله عليه وآله معصوم لا يخطئ ولا يسهو ولا ينسى ولا يقع في زلة لسان...إلخ؛لأن كلّ ذلك خلاف العصمة والتطهير الذي حباه الله تعالى به..وكلّ من ينسب شيئاً من هذا القبيل إلى رسول الله محمد وأهل بيته الاطهار صلوات ربي عليهم أجمعين فهو منحرف ومارق من الدين إذا كان متعمداً في تخطئة المعصومين عليهم السلام...والله تعالى هو الموفق للصواب والرشاد..
والحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على رسوله محمد وآله الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين...
عبد الإمام المعظم الحجة القائم صلّى الله عليه وآله/ غريبه واقفٌ على بابه محمَّد جميل حمُّود العاملي/ بيروت/ بتاريخ ٨ ذي القعدة ١٤٤٥ هجري قمري.