الإثباتُ العلميّ لنُطق رأس الإمام الحسين (عليه السّلام)
الإثباتُ العلميّ لنُطق رأس الإمام الحسين (عليه السّلام)
بسم الله الرَّحمان الرَّحيم
الحمدُ للّهِ كما هو أهلُه، نحمَدُهُ بِحَمدٍ لا يزولُ ولا يحول، ونستعينهُ على شُرورِ أنفُسِنا وسَيِّئاتِ أعمالنا مِن أن نَضِلَّ أو نُضلَّ وننحرف، والصَّلاةُ على سيِّدِ رُسُلِهِ وخاتَمِ أنبيائهِ، وديعةِ الله تعالى في خَلقِهِ، وأمينهِ على رسالاتهِ وعِلمِه، محمَّد رسولِ الله، وعلى الخيرةِ والصَّفوةِ المُنتَجَبةِ والمُنتَخبةِ من آلهِ الّذين عَصمَهُمُ الله تعالى من الزَّلَلِ وطَهَّرهُم من الدَّنَس، وجعلهُمُ الرّاسخين في علمهِ المُؤتَمَنين على وَحيِه، حيثُ لا يَأتمِنُ عليهِ إلا منِ ارتضى من نبيٍّ أو شهيدٍ صِدّيق.
يتناولُ هذا البحث مُفرَدةً من المُفرداتِ الّتي استهدَفَتها الثَّقافةُ التَّحريفيّة، والّتي ما فَتِئ مروجوها بين الحين والآخرِ يَخرُجونَ علينا بشيءٍ جديد ليصبَّ في قائمةِ جُرأتِهِم على فِكرِ أهلِ البيتِ (عليهم السَّلام) وابتعادِهِم عنهُ رَغمَ مُحاولاتِهِمُ الحَثيثة لِتقديمِ هذا الإنحراف على أنَّهُ فِكرُ مدرسَةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام).
وهذه المُفرَدة إحدى مُفردات قائمةِ التَّحريف الّتي تُخَبِّئُ وراءها جملةً مِن الغاياتِ والأهدافِ الكبيرة الّتي مِن شأنِها- لو انتشرت في الأوساطِ الإيمانيّة- أن تُزَعزِعَ الكثيرَ من المباني العقائديّةِ والتَّشريعيَّةِ الأساسيّة الّتي تعتَمِدُ عليها مَدرَسَةُ أهلِ البيتِ (عليهم السَّلام)...
ولا تقتصرُ هذه المُفردةُ ونَظيراتُها على نِطاقٍ محدودٍ دونَ أن تُؤثِّرَ على البُنيانِ الفكريّ الّذي تُبنى عليهِ تِلكُمُ المُفردات، بل مِن السّذاجةِ القَولُ بأنَّ المَقصودَ هوَ نفسُ هذهِ المُفرَدةِ أو تِلك دونَ أن تمتَدَّ لتطالَ مِصداقيَّةَ أهلِ البيتِ(عليهم السلام)، ولِتجعلَ كلامهم (عليهم السلام) في رواياتِهِم الّتي تُشيرُ إلى مناقِبِهم وظُلاماتِهِم مَورِدَ تجاذُبٍ ذوقيٍّ واجتهاديٍّ على القياسِ الحَنَفيِّ بحيثُ يُسمَحُ معها للأخذِ بها أو الإغضاءِ عنها من أجلِ تمريرِ التَّفاسيرِ الأخرى الَّتي تتجاوزُ تفسيرَ المَعصومين(عليهم السلام)، وهذا بِدورهِ إن سُمِحَ لهُ بالإنتشارِ والتَّمرير، سيُؤدّي بالضَّرورة إلى إخراجِ سُنَّةِ المَعصومينَ(عليهم السلام) من مجالاتِ النَّصِّ المُقدَّس، وبالتَّالي حذفُها من مصادِرِ التَّشريعِ الإسلاميّ، سيَّما إذا ما لاحظنا ذلك ضمنَ الجوِّ المُلَغَّمِ في حديثِ أهلِ التَّحريفِ عن موضوعاتِ المُعجِزةِ والكرامةِ والعِصمَةِ والعلمِ الحُضوريِّ للأئمَّةِ الطَّاهرين(عليهم السلام) وما إلى ذلكَ مِن تَحريفاتٍ وَجَدَت لها قابليّاتٍ خَصبَةٍ في أوساطنا الشّيعيَّةِ لا سِيَّما السَّاحة اللُّبنانية المليئة بالتَّعَرُّجاتِ الفكريّةِ والتَّشكيكاتِ العقائديَّةِ بواسطةِ ثلَّةٍ من أنصاف العلماء وقُرَّاءِ العزاءِ المائلينَ إلى أخطبوطٍ ذي أرجُلٍ مُتعَدِّدة لا يُمكنُ الإفلاتُ منهُ إلّا بالتَّوَكُّلِ على الله تعالى والإستعانةِ بالحُجَجِ المَعصومين عليهم السلام .
منذُ سِنين سَمِعنا أحَدَ القُرّاءِ ينفُثُ على مِنبَرٍ حُسينيٍّ ببعضِ المَعاجِزِ المُتعلِّقةِ بسيِّدِ الشُّهداء(عليه السلام) مُدَّعِياً بأنَّها تصبُّ في خانَةِ المُغالاةِ بحالاتِ وشؤونِ الإمامِ الحُسين (عليه السلام) !! ويُقصَدُ بها نُطقُ الرَّأسِ الشَّريف للإمام الحسين فديته بنفسي بعدَ فصلِهِ عن جَسَدِهِ الطَّاهر...فأرسلنا إليهِ مَن يُرشِدُهُ للصَّواب...لكنَّ الأمرَ تطوَّرَ عند غيره ممن لم تصله حجتنا حتى إستفحل فزادَ عدَدُ المُشَكِّكينَ بهذه المُفرَدَة، وقَد يَصِلُ الأمرُ إلى مُفرداتٍ أخرى فيُؤدّي ذلكَ إلى نسفِ قانونٍ عام قامَت عليهِ عامَّةُ الرِّسالات لإثباتِ صِحَّةِ دعواها... .
وهذا القانون: هو إقامَةُ المُعجِزة لإثباتِ الدَّعوى أو إقامَةِ الحجَّة على الخَصم؛ والمُفردة الّتي شَكَّكَ بها بَعضُ القُرَّاءِ الجَهَلةِ الّذين ينتَمون إلى أصولٍ تشكيكيَّة لها خلفيَّاتٌ عامِّيَّة، هي التّالي: كيفَ ينطِقُ رأسُ الإمام الحُسين عليه السلام بعدَ فَصلِهِ وما الفائدةُ المُتَرتِّبة غلى ذلك؟ وحيثُ إنَّ هذا غُلُوٌّ، لذا يقتضي رفضها من أساسها...!!
وثمَّة مُفرَدَةٌ أُخرى شكَّكوا بمضمونها وهي زيارةُ الأربعين حيثُ نفى بعضٌ وجود استحبابٍ في زيارة الأربعين(1)، مؤوِّلاً الحديثَ المرويِّ عن الإمام الحسنِ العسكريّ(عليه السَّلام) (2) بأنَّ المُرادَ من "زيارة الأربعين: هو زيارةُ أربعينَ مؤمناً، وأمّا زيارةُ الأربعين فليسَ فيها استحباب.
والحاصل: أنَّ الكلامَ يقعُ في نقطتين:
الأولى: علاجُ التَّشكيكِ في نُطقِ رأسِ الإمامِ الحسين(عليه السلام) بعدَ فصلهِ عن الجسدِ الشَّريف...
الثّانية: علاجُ التَّشكيكِ في زيارةِ الأربعين.
أمَّا النُّقطةُ الأولى: فالإستبعادُ غيرُ واردٍ أصلاً عند أصحاب ألأفئدة الطاهرة والعقول السليمة، بل نطق الرأس من الواضحات والقطعيات بحسب مشربنا العلمي وأصولنا العقائدية، لذا نبحثُ في هذهِ النُّقطةِ ضمنَ عدَّةِ مستوياتٍ:
المستوى الأوَّل: الإثباتُ التَّاريخيّ لحادثةِ نُطقِ الرَّأسِ الشَّريف... .
لقد نَطَقَ رأسُ الإمامِ الحسين(عليه السلام) في عدَّةِ أماكن: في الكوفة، وفي الطَّريقِ إلى الشَّام، وفي دِمشق ، والَّذين سمعوا نُطقَ الرَّأسِ الشَّريفِ عدَّةُ أفرادٍ وليسَ زيدُ بنُ أرقَمَ فقط، فهم على التَّرتيب التَّالي:
زيدُ بنُ أرقَم: صحابيّ.
المنهالُ بنُ عمرو: كوفيٌّ ثِقة من أصحابِ الإمامِ السَّجَّاد(عليه السلام).
هلالُ بنُ معاوية: مجهولٌ في التَّراجم.
سَلَمةُ بنُ كُهَيل: من أصحابِ أميرِ المؤمنين(عليه السلام) والإمامِ الباقر(عليه السلام)(3).
ابن وكيدة: لم أعثُر على ترجمةٍ لهُ بهذا الإسم، والظَّاهرُ أنَّهُ رجلٌ من المؤمنينَ الشّيعةِ، وذلكَ لخطابِ الرَّأسِ الشَّريفِ لهُ.
رسولُ ملِك الرّوم.
جماعةٌ كثيرونَ في موضعِ الصًّيارِفةِ في دمشقَ(4) والكوفة (5).
الرَّاهبُ الَّذي أقسم على الله بالنَّبيِّ عيسى(عليه السلام) أن يكلِّمَه رأسَ الإمام (عليه السلام ) كما رواها الخوارزمي في كتابه مقتل الإمام الحسين عليه السلام ج 2 ص 115 رقم 49 وغيره من العامة ممن لا تحضرني مصادرهم، ورواها عامة المحدثين الشيعة في كتب المقاتل والمعجزات منهم:مناقب آل أبي طالب لإبن شهر آشوب ج 3 ص 217/مدينة المعاجز للبحراني ج 4 ص 123 معجزة رقم: ( 1120 / 173) بحار الأنوار ج 45 ص 304 ح 3 باب 46 عن النطنزي في الخصائص /العوالم للشيخ عبد الله البحراني ص 617 عوالم الإمام الحسين عليه السلام وغيرها من المصادر الشيعية القديمة المعتبرة..
ولا يخفى على اللبيب أن هذه الكرامة والمعجزة الحسينيّة المقدسة شرَّف الله تعالى بها الراهب الذي تشيع بعدما كلَّمه رأس الإمام الحسين عليه السلام أراد المخالفون والبتريون من الشيعة المقصرين طمسها فحذفوها من مصادرهم الحديثة...ويأبى الله إلَّا أن يتمَّ نوره ولو كره الكافرون..
أمّا زيدُ بن أرقم: فقد روى الشَّيخُ المفيدُ في الإرشادِ ج2 ص117وصاحب المناقب ج4/61،وأبو مخنف في المَقتَل ص175، والتُّستَري في إحقاق الحقّ ج11 ص 452 نقلاً عنِ المصادرِ العامّيّة كمفتاح النَّجا في مناقب آلِ العبا ص 145،وكذا في الخصائص الكبرى ج2 ص25 وشرح النَّهج لإبن أبي الحديد ج1/362.
جميعُ هؤلاء رووا أنَّ زيدَ بنَ أرقمَ كانَ في غرفةٍ لهُ في الشَّام، إذ مرَّ بهِ الرَّأسُ الشَّريفُ وهو على رمحٍ فلمَّا حاذاهُ سمِعَهُ يقرأ:[ أم حسِبتَ أنَّ أصحابَ الكَهفِ والرَّقيمِ كانوا من آياتنا عَجَبا] يقولُ زيدُ بنُ أرقم: لمَّا سمِعتُهُ ينطِق فقفَّ (6) واللهِ شَعري عليَّ وناديتُ:[ رأسُكَ يا ابنَ رسولِ اللهِ أعجَبُ واعَجَب].
وأمّا المنهالُ بنُ عمرو: فقد روى الطُّبرُسيّ في الإحتجاج، ومحمَّد باقر المجلسي في البحار ج 45/188،والمقرم في المَقتَل ص434،وإحقاقِ الحقّ 11 ص 452 نقلاً عنِ السَّيُّوطي في الخصائص الكُبرى ج 2/127ط حيدر آباد أخرَجَهُ عن إبن عساكِر،وعبدُ الرَّؤوفِ الناوي في الكواكب الدُّرِّيَّة ج1 ص57ط مصر،والصبان في إسعافِ الرَّاغبين والشَّبلَنجيّ في نورِ الأبصار ص125 ط مصر... .
كُلُّهم رووا عن المِنهال بن عمرو قال: أنا واللهِ رأيتُ رأسَ الحسين(عليه السلام) حينَ حُمِلَ وأنا بدِمشق، وبينَ يديهِ رجلٌ يقرأ سورةَ الكَهفِ حتَّى إذا بَلَغَ قولَهُ تعالى:[ أم حَسِبتَ أنَّ أصحابَ الكَهفِ والرَّقيمِ كانوا مِن آياتنا عَجَبَاً] فأَنطَقَ اللهُ عزَّ وجلَّ الرَّأسَ بلِسانٍ ذرِبٍ -أي فصيح- ذَلِقٍ أي بليغ، فقال: أعجَبُ من أصحابِ الكهفِ قتلي وحَملي.
وأمَّا هلالُ بنُ معاوية: فقال: رأيتُ رجُلاً يحمِلُ رأسَ الإمامِ الحسين(عليه السلام)، والرَّأسُ يخاطِبُهُ: فرََّقتَ بينَ رأسي وبدَني، فرَّقَ اللهُ بينَ لحمِكَ وعَظمِك، وجَعَلَكَ آيةً ونَكالاً للعالمين، فرَفَعَ السَّوطَ وأخَذَ يَضرِبُ الرَّأسَ حتّى سَكَت(7).
وأمَّا سَلَمةُ بنُ كُهَيل: سَمِعَ سَلَمةُ بنُ كُهَيلٍ الرَّأسَ الشَّريفَ يقرأُ وهوَ على القنا "فسَيَكفيكُهُمُ اللهُ وهُوَ السَّميعُ العليم(8)".
وأمَّا إبن وكيدة: فقال: إنَّهُ سَمِعَ الرَّأسَ الشَّريفَ يقرأُ سورَةَ الكَهفِ، فشَكَّ في أنَّهُ صَوتُ الإمامِ الحسين(عليه السلام) أو غيره، فتَرَكَ عليهِ السَّلام القراءة والتَفَتَ إليهِ يُخاطِبُهُ: يا ابنَ وكيدة ليس إلى ذلكَ من سبيل، إنَّ سَفكَهُم دمي أعظَمُ عندَ اللهِ من تسييري على الرُّمح فذّرهُم فسَوف يعلمون إذِ الأغلالُ في أعناقِهِم والسَّلاسِلُ يُسحَبون(9).
وأمّا رسولُ مَلِكِ الرُّوم: يُروى أنَّهُ لمّا أمَرَ يزيدٌ لعنةُ اللهِ عليه بقتلِ رسولِ مَلِكِ الرُّوم لمّا أنكَرَ عليهِ فِعلَتَه، نَطَقَ الرَّأسُ الشَّريف بصوتٍ رفيع:[لا حَول ولا قوَّةَ إلاّ بالله] (10).
وأما جماعةُ باب الصَّيارِفة: روى إبن شهر آشوب في المناقب ج4/61 والمقرم في المَقتَل ص433 نقلاً عن أبي مخنف عن الشَّعبي قال: أنَّهُ لمّا صُلِبَ رأسُ الإمامِ الحسين(عليه السلام) بالصَّيارِفِ في الكوفةِ وهُناكَ أناسٌ كثيرون، تَنَحنَحَ الرَّأسُ وقرأ سورَةَ الكَهف... .
وروى صاحِبُ المناقبِ فقال:ولمَّا صلبوهُ على شَجَرةٍ سُمِعَ مِنهُ قولُهُ تعالى:[وسَيَعلمُ الّذينَ ظلَموا أيَّ مُنقَلَبٍ ينقلِبون] (11).
ويُروى أيضاً أنَّهُ سُمِعَ صوتُهُ بِدِمَشقَ يقول:"لا قوَّة إلاّ بالله"(12).
وأمّا الرَّاهب:قال النطنزي في الخصائص: لمّا جاؤوا برأسِ الإمام الحسين(عليه السلام) ونزلوا منزِلاً في قنسرين(قنسرين قرية قريبة من حمص)،اطلع الرَّاهبُ مِن صَومَعَتِهِ إلى الرَّأس، فرأى نوراً ساطِعاً يخرُجُ مِن فيهِ ويَصعَدُ إلى السَّماءِ فأتاهُم بِعَشرةِ ألافِ دِرهَمٍ وأَخَذ الرَّأسَ، وأدخَلَهُ صَومَعَتَهُ، فسَمِعَ صوتاً ولم يرَ شخصاً،قال: طوبى لَكَ ولِمَن عَرَفَ حُرمَتَكَ، فرفَع الرَّاهِبُ رأسَهُ وقال:يا ربِّ بحقِّ عيسى تأمُر هذا الرَّأسَ بالتَّكَلُّمِ معي، فتكَلَّمَ الرَّأسُ وقال: يا راهِبُ أيَّ شيئٍ تريد؟ قال مَن أنتَ؟ قال أنا ابنُ محمَّد المُصطفى، وأنا ابنُ عليٍّ المُرتَضى، وأنا ابنُ فاطِمَةَ الزَّهراء، وأنا المقتولُ بكربلاء، أنا المظلوم، أنا العطشان، وسَكَت، فوَضَع الرَّاهِبُ وجهَهَ على وجهِهِ وقال: لا أرفَعُ وجهي عن وجهِكَ حتَّى تقولَ لي: أنا شفيعُكَ يومَ القيامَةِ. فتكلَّمَ الرَّأسُ الشَّريفُ،فقال: إرجِع إلى دينِ جدّي محمَّد صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه، فقال الرَّاهب: أشهدُ أن لا إله إلاّ الله، وأشهدُ أنَّ محمَّداً رسولُ الله.فقَبِلَ لهُ الشَّفاعة، فلمَّا أصبحوا أخذوا مِنهُ الرَّأسَ والدَّراهِمَ، فلمّا بَلَغوا الوادي نظَروا إلى الدَّراهِمِ قدصارَت حجارة(13)، وصُلِبَ على شجَرةٍ فاجتَمَعَ النَّاسُ حَولها وهُوَ يقرأُ:[وسَيَعلَمُ الّذينَ ظَلَموا أيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبون](14).
وبالجُملة: فإنَّ واقِعَةَ تكَلُّمِ الرَّأسِ الشَّريفِ ثابتَةٌ تاريخيَّاً، والرِّواياتُ في ذلِكَ مُستَفيضَةٌ، والإستِفاضَةُ مِنَ النَّاحِيَةِ الإصطِلاحيَّةِ هيَ كَثرَةُ نَقلِ الواقِعَة؛ وليسَ النَّقلُ مَقصوراً على رِوايَةِ زيدِ ابنِ أرقمَ الّتي هي أشهَرُها، حتّى لو كان النَّقلُ مُقتَصِراً على روايةٍ واحِدَةٍ فلا يُمكِنُ طَرحُها أو التَّشكيكُ فيها لمجرَّد كونها رواية واحدة، وإلّا لاقتضى ذلِكَ طَرح الكثيرِ مِن المُفرداتِ التَّاريخيَّةِ لمُجَرَّدِ كونها مرويَّةً بخَبَرٍ واحد، ممّا يستلزم نسفَ الكثيرِ مِن الوقائِعِ الّتي حَصَلَت خارِجاً وفي ذلِكَ مِنَ المحاذيرِ ما لا يَخفى على المؤَرِّخِ والفقيه حيثُ لا يثبُتُ مِن الوقائِعِ إلَّا النذرُ القليل، ممّا يعني الجَهلَ بواقِعِ الأحداثِ التَّاريخيَّة، وبالتَّالي الجهلَ بالمُعتقداتِ والأحكامِ المُتَرَتِّبةِ على تِلكُمُ الوقائع.
كلُّ هذا واضحٌ عندَ المُحَصِّلينَ من العلماء، وعليه فإنَّ الخبرَ الواحد الضَّعيف سَنَداً يُعمَلُ بهِ في الأخبارِ التَّاريخيَّةِ ما لم يؤدّ إلى مُصادمةٍ معَ الأُسُسِ العقائديَّةِ والأصول الدّينيَّة، وحيثُ لم يترتَّب شيءٌ من هذا على خبرِ واقِعَةِ نُطقِ الرَّأسِ الشَّريف، وحيثُ رُوِيَتِ الواقعةُ بأسانيدٍ مُستَفيضة، وهيَ في واقِعِها تدلُّ على حدوثِ مُعجزةٍ أو كرامَةٍ لمولى الأنامِ سيِّد الشَّهداء صلَّى الله عليه وآله، فلا يجوزُ حينئذٍ ردّها أو التَّشكيك فيها، لأنَّ التَّشكيكَ في واقِعةٍ كهذهِ يجُرُّ إلى التَّشكيكِ في كثيرٍ من المعاجِزِ والكراماتِ الصَّادِرَةِ عن أياديهِمُ الشَّريفة (عليهم السلام).
المستوى الثَّاني:ينبغي على المُتأمِّلِ أن يعرِفَ أنَّ مِثلَ هذهِ الحادِثَةِ المَروِيَّةِ بأسانيدَ مُستفيضة لا يُمكِنُ أن نَعرِضَها أمامَ القانونِ الطَّبيعيِّ، لأنَّها قائِمَةٌ على خصوص المُعجِزَة، وليسَ لها مِن القانونِ الطَّبيعيِّ أيُّ نصيب، فإذا حَدَثَتِ المُعجِزَةُ أمكَنَ ذلكَ وغيرُه، وبالمعجزةِ نَطَقَ رأسانِ في البَشَريَّةِ هما: رأسُ النَّبيّ يَحيى بن زكريّا، ورأسُ سيِّدِ الشُّهداء الإمام الحسين بن عليّ(عليهما السَّلام).
فقد روى التُّستَري في الخصائص ص278 نقلاً عن المصادِرِ المُعتَبَرةِ بأنَّ النَّبيّ يَحيَى تكلَّمَ رأسُهُ بعد القتلِ فقالَ للملِكِ الّذي قَطَعَ رأسَهُ: "إتَّقِ اللهَ" ، وكذلكَ الإمامُ المُرسَل الحسينُ الشَّهيد قرأ القرءآنَ الكريمَ مكرراً، وسُمِعَ منهُ "لا حولَ ولا قوَّةَ إلّا بالله".
المستوى الثَّالث:قد يسألُ البعضُ: ما الغايةُ مِن هذهِ المعجزةِ عنَيتُ بها نُطقَ الرَّأسِ الشَّريف؟
والجواب:إنَّ نُطقَ الرَّأسِ الشَّريف إنَّما كانَ لإقامةِ الحجَّةِ على أهلِ الشَّامِ والكوفةِ الذينَ كانوا يجهلون مَقامَ وعَظَمَةَ الإمامِ الحسين(عليه السلام)، ويَجهَلونَ صِدقَ مقالِهِ وقضيَّتِه، بل كانَ الحُكَّامُ يغرِسونَ في أذهانِ هؤلاءِ أنَّ هذا الموكِبَ هو لسبايا غيرِ المُسلِمينَ من الرّومِ أو الدَّيلَمِ ونحو ذلك، وكانَ لا بُدَّ لهذا الموكِبِ الحُسينيِّ المُبارَكِ أن يُثبِتَ صِدقَ قضيَّتِهِ، وفي الواقِعِ أنَّ رَكبَ السَّبايا لم يُقصِّر في ذلكَ بعدَ أن تكلَّمَ مولانا الإمامِ السَّجَّاد(عليه السلام) والصِّدّيقةُ الكبرى الحوراء زينب (عليها السلام) وآخرون، وحَدَثت لهُ (عليه السلام) عدَّةُ مآتمَ في الشَّام.
لكنَّ تكلُّمَ رأسِ الإمامِ الحسين (عليه السلام) أبلَغُ في توكيدِ الحجَُّةِ على ذاكَ الخلقِ المنكوس، فمشاركةُ الإمامِ الحسين عليه السلام من خلال رأسِهِ الشَّريفِ للهِدايَةِ والإعلام، وذلكَ بقراءةِ القرآن وهو فوقَ رُمحٍ طويلٍ، كانت مُشاركةً أوكد من كلِّ المُشاركاتِ لأنَّهُ الشَّخصُ الرَّئيسيُّ والأهمُّ أولاً، ولأنَّ مشاركَتَهُ إعجازيَّةٌ ثانياً؛ وهاتانِ الصِّفتانِ لم تحصُل لأيٍّ من المشاركينَ الآخرينَ في مُعسكرِ الإمامِ الحسين عليه السلام وإن علا شأنُهُم وعظُم مقامُهم.
مُضافاً إلى أنَّ السِّبطَ الشَّهيد عليه السلام حليفُ القرآنِ منذُ نشأ كَيانُهُ الأقدَس لأنَّهُما ثِقلا رسولِ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) وخَليفتاهُ على أُمَّتِه، وقد نصَّ الرَّسولُ الأعظَمُ بأنَّهُما لن يفترقا حتّى يَرِدا عليهِ الحَوض، فبذلكَ كانَ الإمامُ الحسين(عليه السلام) غيرَ مُبارِحٍ تِلاوَتَهُ طيلَةَ حياتِهِ في إرشادِهِ وتبليغِه في حلِّهِ ومُرتَحَلِه حتّى في موقفهِ يومَ الطَّفِّ بينَ ظهرانيِّ أولئكَ المُتَجَمهِرينَ عليهِ ليُتِمَّ عليهِمَ الحُجَّةَ ويوضحها لهم، هكذا كانَ إبنُ رسولِ اللهِ يسيرُ إلى غايتِهِ المُقدَّسةِ سيراً حثيثاً حتّى طَفِقَ يتلو القرءآنَ ورأسُهُ المُطهَّرُ فوقَ السِّنانِ عسى أن يحصلَ في القومِ مَن يصعقهُ نورُ الحقِّ، غيرَ أنَّ داعيةَ الهدى لم يُصادِف إلّا قِصَراً في الإدراك، وطبْعاً في القلوبِ، وصَمَماً في الآذانِ "طبَعَ اللهُ على قلوبِهِم وعلى سَمعِهِم وعلى أبصارِهِم غِشاوة".
ولا يَستَغرِبُ هذا مَن يفقهُ الأسرارَ الإلهيَّةَ فإنَّ المولى سبحانَهُ وتعالى بعدَ أن أوجَبَ على سيِّدِ الشُّهداءِ النَّهضَةَ لسَدِّ أبوابِ الضَّلالِ بذلك الشّكلِ الحزينِ في الظَّرفِ والمكانِ المحدَّدِ لِمصالِحَ أدرَكَها الجليلُ جلَّ شأنُهُ فأوحى إلى نبيِّهِ الأقدَسِ أن يقراَ هذهِ الصَّفحةِ الخاصَّةِ على ولدهِ الإمامِ الحسين(عليه السلام)، فلا سبيلَ إلّا التَّسليمُ والخضوعُ للأصلَحِ المرضيّ لربِّ العالمين[ لا يُسألُ عمّا يفعَلُ وهُم يُسألون] وحيثُ أرادَ المُهيمِنُ تعالى بهذهِ النَّهضةِ المقدَّسَةِ تعريفَ الأُمَّةِ الحاضِرَةِ والأجيالِ المُتَعاقِبَةِ ضلالَ المُلتَوينَ عنِ الصِّراطِ السَّوِيِّ العابثينَ بقداسَةِ الشَّريعة، أحبَّ الإتيانَ بكلِّ ما فيهِ توطيدُ أُسُسِ هذهِ الشَّهادَةِ الَّتي كتَبَت بدَمِها الطَّاهِر صحائِفَ نيِّرة من أعمالِ الثَّائرين في وجهِ المُنكَر، فكانت هذهِ النَّهضَةُ مُحْتَفَّةً بغرائبَ لا تصِلُ إليها الأفهامُ ومنها استشهادُ الرَّأسِ المُعَظَّمِ بالآياتِ الكريمةِ والكلامِ من رأسٍ مقطوعٍ أبلغ في إتمامِ الحُجَّةِ على مَن أعمَتهُ الشَّهَواتُ عن إبصارِ الحقائقِ، وفيهِ تركيزُ العقائدِ على أحقِّيَّةِ دعوتِهِ الّتي لم يقصد بها إلّا الطَّاعةَ لربِّ العالَمين، ووخامَةَ عاقِبَةِ مَن مَدَّ عليه يدَ السّوءِ والعدوان، كما أنَّهُ (عليه السلام) نبَّهَ على ضلالِ مَن جرَّأهُم على الطُّغيان، ولا بدع في القدرةِ الإلهيَّةِ إذا مكَّنَتِ رأسَ الإمامِ الحسين (عليه السلام) من الكلامِ للمصالح الّتي نقصِّرُ عنِ الوصولِ إلى كُنهِها بعدَ أن أودعَت في الشَّجرةِ الّتي تكلَّمَت معَ النَّبيّ موسى(عليه السلام) قوَّةَ الكلامِ عندَ المناجاة، وهل تُقاسُ الشَّجرةُ برأسِ المنحورِ في طاعةِ الرَّحمانِ سبحانه؟...كلا.
وبالجملة: فإنَّ نُطقَ الرَّأسِ الشَّريفِ معجِزةٌ إلهيَّةٌ تماماً كمعجزةِ بقاءِ الرُّؤوسِ دونَ أن يُصيبها تغَيُّرٌ أو تَبَدُّلُ معالِمِهاِ خلالَ سيرِهاِ مِن كربلاءَ إلى الكوفةِ ثمَّ إلى دمشقَ تحتَ حرارةِ الشَّمسِ المُحرِقَة، فلَم يروِ لنا التَّاريخُ أنَّ شيئاً مِنَ الرُّؤوسِ تغيَّرَ أو خَرجَت منهُ رائِحةٌ كريهةٌ بلِ العكسُ هوَ الصَّحيحُ حيثُ كانَ ينبَعِثُ منها رائِحةٌ عطرة جميلةٌ مع عدم تبدُّلِ معالِمِها بخلاف ما هو الحاصِلُ في رؤوسِ النَّاسِ عندما يموتون حيث تتغير الصور وتنبعث الرواح الكريهة، وما تلكَ الكرامَةُ سِوى لُطفاً من اللهِ تعالى أرادَ إظهارَهٌ على رؤوسِهِمُ الطَّاهرة إعظاماً لشأنها وإعلاءً لفضلها.
وهذهِ من جملةِ الأمورِ العديدةِ الّتي كانت سبباً لإقامَةِ الحُجَّةِ على كلِّ النَّاسِ المعاصرينَ لقتلِ الإمامِ الحسين(عليه السلام) بل والأجيالِ المُتأخِّرةِ عنه، وخاصَّةً أولئكَ الأعداء الّذينَ قطَعوا الرّؤوسَ بكلِّ قسوةٍ ولم تكن عندهم إنسانيَّةٌ وحملوها على الرِّماح، وسيَّروها كلَّ هذا السَّيرِ الطَّويل.
نُطقُ الرَّأسِ الشَّريفِ معجزةٌ، ومّن أنكَرَ ذلكَ أنكَرَ قانون المعجزات، وإنكارُ المعجزاتِ كفرٌ باللهِ تعالى وبقدرتِهِ وبما جاءَ بهِ القرآنُ والنَّبيُّ وعترتُهُ الطَّاهرة.
ومَن ينكِرُ نُطقَ الرَّأسِ هو كأولئكَ الفجَرةِ الّذينَ أنكروا فضلَ الإمامِ (عليه السلام) مع إيقانهِم بنُطقِ رأسِه...وثمَّةَ شواهِدُ قرآنيَّة تُثبِتُ نُطقَ الجمادِ أو الحيوانِ أو الأعضاءِ أو النَّبات، فلا عَجَبَ إذاً أنْ ينطِقَ رأسُ أشرَفِ الخلائقِ أبي عبدِ اللهِ الحسين(عليه السلام).
الشَّواهدُ القرآنيّة على النُّطق:
الشَّاهدُ الأوَّل:نُطقُ الجماداتِ بالتَّسبيح للهِ تعالى، قال عزَّ وجلّ:[وإنْ ِمن شيءٍ إلّا يُسَبِّحُ بحمدِهِ ولكِنْ لا تفقهونَ تسبيحَهُم] الإسراء/44.
كلُّ ذرَّاتِ الوجودِ تُسبِّحُ للهِ وتنطُقُ بالإعترافِ بالوِحدانيَّةِ للهِ تعالى وتنزيهِهِ عنِ النَّقصِ والعَيْبِ، لكنَّ أغلبَ النّاسِ لا يفقهونَ هذا التَّسبيحَ، من هذا القبيلِ نُطقُ الرَّأسِ حيثُ لا يفقههُ الّذينَ استغرقوا بالشَّهَواتِ والنّزواتِ الدّنيويَّةِ فحَجَبَت عن مسامِعِ قلوبِهِم وأفكارِهِم نُطقَ رأسِ الإمامِ الحسين(عليه السلام)، بل إنَّهُم أنكروا قدرةَ اللهِ تعالى على إنطاقِ الرَّأسِ، واستنكارُهُم إمَّا يرجعُ إلى نفي القدرَةِ الإلهيَّة، وإمّا يرجع إلى استكثارِ هذا الفضلِ للإمامِ الحسين(عليه السلام)، وكلاهما يوجبانِ المروق من الدين، والخروجَ من شريعةِ سيِّدِ المُرسَلين صلَّى الله عليه وآله.
الشَّاهدُ الثَّاني:تسبيحُ الحيوانات، فتسبيحُها داخلٌ في تسبيحِ الكائناتِ للهِ تعالى، مُضافاً إلى قولِهِ تعالى[والطَّيرُ صافّاتٌ كلٌّ قد عَلِمَ صلاتَهُ وتسبيحَه] النور/41 [ أَوَلَم يرَوا إلى الطَّيرِ فوقهم صافّات...] فالطَّيرُ صافّاتٌ للتَّسبيح....
ووَرَدَ عن الإمامِ الباقِرِ(عليه السلام) قال: نهى رسولُ اللهِ أن توسَمَ البهائمُ في وجوهها، وأن تُضرَبَ وجوهُها لأنَّها تُسبِّخُ بحمْدِ ربِّها.
وعن الإمامِ الصّادق(عليه السلام) قال: ما من طيرٍ يُصادُ في بَرٍّ ولا بَحرٍ، ولا شيئٌ يُصادُ مِن الوحش إلّا بتضييعهِ التَّسبيح.
وعن الإمام الباقر(عليه السلام) عندما سمع يوماً صوتَ عُصفورٍ، فقالَ لأبي حمزة الثَّماليّ: يسبّحنَ ربَّهُنَّ عزَّ وجلَّ ويسألْنَ قوتَ يومِهِنَّ. وصدقَ اللهُ تعالى لمّا قال:[وسخَّرنا مع داوودَ الجبالَ يُسَبِّحنَ والطَّير] الأنبياء/79.
الشَّاهدُ الثَّالث:تسبيحُ الرَّعدِ والملائِكة: قال تعالى:[ ويُسَبِّحُ الرَّعدُ بحمْدِهِ والملائكةُ مِن خيفته] الرَّعد/13،[ وترى الملائكةَ حافّينَ من حولِ العَرشِ يُسَبِّحونَ بحمدِ ربِّهِم وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] الزُّمر75، [وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحونَ اللّيلَ والنَّهارَ لا يَفتَرون] الأنبياء/20، [الّذينَ يحملونَ العرْشَ ومِن حولِهِ يُسَبِّحونَ بحمْدِ ربِّهِم] غافر7.
التّسبيحُ كما قلنا هو التَّنزيهُ عن النَّقصِ والعيبِ ولا يُنَزِّهُ اللهُ عزَّ وجلَّ إلّا العارِفونَ باللهِ تعالى، أمّا الجاهلونَ المُغَفَّلونَ فهُم بعيدونَ عن هذا، بل يُلصِقون باللهِ تعالى الظُّنونَ والشُّكوك...وهؤلاءِ هم في الواقِعِ المُستَكبِرونَ الّذينَ حَكَى اللهُ تعالى عنهُم بقولِهِ عزَّ وجلَّ[ فإنِ استَكبَروا فالّذينَ عندَ ربِّكَ يُسَبِّحونَ لهُ باللَّيلِ والنَّهارِ وهُم لا يسئمون] فصلت/38.[ إنَّ الّذينَ عندَ ربِّكَ لا يستَكبِرونَ عن عبادتِهِ ويُسبِّحونَهُ ولهُ يسجدون] الأعراف/206.
فالمقصودُ بـ"الّذينَ عندَ ربِّكَ" أي الّذينَ يكونونَ معَ اللهِ دائماً، فهؤلاءِ عبادٌ عارِفونَ لا يسئمونَ مِن التَّسبيحِ الّذي هوَ نوعٌ مِنَ العبادَةِ الفكريَّةِ حيثُ يُنَزِّهونَ اللهَ تعالى عن الشَّريكِ وعن النَّقصِ فيهِ وفي أوليائهِ المُكرمين... .
الشَّاهدُ الرَّابع:نُطقُ الهُدهُدِ مع النَّبيِّ سُليمانَ(عليه السلام) كما حكى اللهُ تعالى عنهُما بقولِهِ عزَّ وجلَّ:[ وتفقَّدَ الطَّيرَ فقالَ ما لي لا أرى الهُدهُدَ أم كانَ مِنَ الغائبين، لأُعذِّبنَّهُ عذاباً شديداً أو لأُذبِّحنَّهُ أو ليأتيني بسلطانٍ مبين، فَمَكَثَ غيرَ بعيدٍ فقالَ أحطْتُ بما لم تُحَطْ بهِ وجئتكَ من سبأ بنبأٍ يقين، إنّي وجدتُ امرأةً تملِكُهُم وأوتِيَت من كلِّ شيئٍ ولها عرشٌ عظيم، وجدتُها وقومها يسجدونَ للشَّمسِ من دونِ اللهِ وزيَّنَ لهُمُ الشَّيطانُ أعمالَهُم فصَدَّهُم عنِ السَّبيلِ فهُم لا يهتَدون] النمل 24.
تشيرُ الآيةُ إلى تسخيرِ اللهِ تعالى المخلوقاتِ المختارَةِ في عبادتِها للهِ تعالى كالجِنِّ والإنسِ والطَّيرِ وإلّا لو لم تكُن مُختارةً بل كانت مُسيَّرةً لما صحَّ عقلاً ونَقلاً أن يُعذّبها على تركِ الطَّاعةِ، إذ ليس بمقدورها المخالفةُ بسببِ أنَّها مقهورةٌ على الطَّاعةِ، والمقهور مسلوب الارادة ، فلمّا جاء التَّهديدُ بالوعيدِ، عرَفنا أنَّها مختارةٌ وليست مجبرةً على الطَّاعةِ... .
وبناءً عليه: فإنَّ الهُدهُدَ من جنود النَّبيّ سليمان(عليه السلام) المأمورينَ بالطَّاعةِ، قال تعالى:[ وحُشِرَ لسُليمانَ جنودُهُ من الجنِّ والإنسِ والطَّيرِ فهُم يوزعون]، فلمَّا كانَ مأموراً بالطَّاعةِ باختيارِهِ ثمَّ تخلَّفَ عنِ الرَّكبِ السّليمانيّ، إستدعى ذلكَ أن يتوعَّدَهُ النَّبيُّ سليمانُ على ترْكِ الطَّاعةِ أو التَّخلُّفُ عن الرَّكبِ، لكنَّ الهُدهُدَ أجابَهُ بمنطِقٍ صريحُ [أحِطتُ بما لم تُحَط بهِ وجِئتُكَ من سبأَ بنبإ يقين][ إنّي وجدتُ امرأةً تملِكُهُم ]، فكلمةُ "أحطتُ" و "جئتُ" و "وجدتُ" دلالاتٌ واضحةٌ على تكَلُّمِه، ومعرفةُ النَّبيِّ سُليمانَ بكلامِهِ ونُطقِه، فَرَعِايا النَّبيِّ سُليمانَ لم يفقهوا كلامَ الهُدهُد، بل كلُّ ما هنالكَ أنَّهُم سمَعوا زقزَقَةَ الهُدهُدِ، في حين أنَّ هذهِ الزَّقزقةَ كلامٌ لا يفقهُهُ إلّا الأولياءُ والأنبياءُ، كما أشار إلى ذلك قول الله تبارك وتعالى[ ولكن لا تفقهونَ تسبيحَهُم ]، فالطَّيرُ يُسَبِّحُ ويتكلَّمُ لكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يفقهون، من هنا أشارَتِ الآيةُ الأخرى حاكيةً عن النَّبيّ سليمان عليه السلام أنَّهُ عُلِّمَ منطِقَ الطَّيرِ بقوله عزَّ وجلَّ: [ووَرِثَ سليمانُ داوودَ وقالَ يا أيُّها النَّاسُ عُلِّمنا منطِقَ الطَّيرِ وأوتينا من كلِّ شيئٍ إنَّ هذا لهوَ الفضلُ المبين] النمل/16.
فالنبيّ سليمان عليه السلام أعطاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ منطِقَ الطَّيرِ، وآتاهُ اللهُ من كلِّ شيءٍ علماً، لكنَّ أهلَ البيتِ(عليهم السلام) آتاهُمُ اللهُ كلَّ شيئٍ، وقد ورَدَ في الأخبارِ عن المولى الإمامِ الصَّادِقِ(عليه السلام) قالَ رادّاً على رجلٍ تلا الآيةَ هكذا[ عُلِّمنا منطِقَ الطَّيرِ وأوتينا من كلِّ شيءٍ] قال(عليه السلام): ليس "مِن" إنَّما هي "أوتينا كلَّ شيئٍ" أي أوتينا نحنُ أهلُ البيتِ معرفةَ كلِّ شيئٍ على وجه الكمال أي أعطاهُمُ اللهُ كمالَ المعرفةِ وليسَ جزءاً منها كما هي عندَ النَّبيّ سليمان وبقيَّةِ الأنبياءِ، ويشهَدُ لهذهِ الرّوايةِ ما وردَ بقولهِ تعالى(15): [وكلَّ شيءٍ أحصيناهُ في إمامٍ مُبين]، أي كل شيء أطلَعَهُ على الإمامِ(عليه السلام) وليسَ بعضاً مِن شيئٍ...ويؤيده خبر الفيض بن المختار قال:سمعت أباعبد الله عليه السلام يقول:إن سليمان بن داود قال:[علمنا منطق الطير وأوتينا من كلِّ شيء]وقد والله علمنا منطق الطير وعلم كلّ شيء .
وبناءً عليه: فإن الأخبارُ في عِلمِهِم بمنطِقِ الطَّيرِ كثيرةٌ. راجِع: [ بصائر الدَّرجات ص 361]، بل الثابت في الاخبار أن آل محمَّد أعلَمُ من موسى والخُضُر وعامة الانبياء عليهم السَّلام، راجع:[ البصائر ص 249-250].
الشَّاهدُ الخامس:نُطقُ النَّحلةِ وخطابها مع النَّبيِّ سليمانَ(عليه السلام)، قال تعالى حاكياً عنها[ حتّى إذا أتَوا على وادي النَّملِ قالت نملةٌ يا أيُّها النَّملُ ادخلوا مساكنكُم لا يَحطِمَنَّكُم سُليمانُ وجنودُهُ وهُم لا يشعرون] [ فتبسَّمَ ضاحكاً مِن قولها وقالَ ربي أوزِعني أن أشكُرَ نِعمَتَكَ الّتي أنعَمتَ عليَّ وعلى والِدَيَّ وأن أعمَلَ عَمَلاً صالِحاً ترضاهُ وأدخِلْني برحمتِكَ في عبادِكَ الصَّالحين] النَّمل/18-19. وراجعوا حول قصص نطق النمل والطير مع النبيّ سليمان عليه السلام: البحار ج 14 ص 90-91.
الشّاهد السّادس: شهود الجلود على أصحابها يومَ القيامةِ: قال تعالى:[حتّى إذا جاؤوها شَهِدَ عليهِم سمْعُهُم وأبصارُهُم وجلودُهُم بما كانوا يعملون، وقالوا لجلودهِم لِمَ شَهِدتُم علينا؟ قالوا أنطَقَنا اللهُ الّذي أنطَقَ كلَّ شيئٍ وهو خلَقَكُم أوَّلَ مرَّةٍ وإليهِ تُرجَعون وما كُنتُم تستتِرونَ أن يشهَدَ عليكُم سمْعُكُم ولا أبصارُكُم ولا جلودُكُم ولكنْ ظننتُم أنَّ اللهَ لا يعلَمُ كثيراً ممّا تعمَلون...] فصلت 20-21.
وفي سورةِ يس أشارَتِ الآيةُ 65 بأنَّ الأيدي والأرجُلُ تتكلَّمُ أيضاً [ وتُكَلِّمُنا أيديهِم وتشهَدُ أرجُلُهُم بما كانوا يكسبون]. وفي سورةِ النّور آية 24 قال تعالى[ يومَ تشهّدُ عليهِم ألسِنَتُهُم وأيديهِم وأرجُلُهُم]
فإذا شّهِدَتِ الأعضاءُ على بني آدَمَ العُصاة ونَطّقّتْ بإرادَةِ اللهِ تعالى نُطقاً حقيقيّاً لتكونَ حُجَّةً عليهِم وتأكيداً لما فعلوهُ في الدُّنيا فأرادوا في الآخرةِ الفِرارَ مِن تبعاتِهِم، فيُنطِقُ اللهُ عزَّ وجلَّ يومَ القيامَةِ جوارِحَهُم لِتشهَدَ عليهِم، ويُروَى أنَّ العبدَ يومَ القيامَةِ يُخاطِبُ ربَّهُ ويقولُ: ألَم تُجِرْني مِنَ الظُّلمِ؟ فيأتيهِ الجوابُ: بلى، فيقولُ العبدُ: إنّي لا أُجيزُ على نَفسي إلّا شاهِداً مِن نفْسي، وعندَئذٍ يأمُرُ اللهُ تعالى أعضاءهُ أنْ تشهَدَ عليه، فيقولُ العبدُ المُذنِبُ لأعضائهِ: بُعداً لكُنَّ وسُحْقاً، فكَم ناضَلتُ عنْكُنَّ.
وبالجملة:منْ أنطَقَ النَّملَةَ والهُدهُدَ والشَّجَرةَ لإظهارِ قُدرتِهِ وإقامَةِ الحُجَّةِ على الآخرين، وليسَ في ذلكَ إستحالةٌ عقليَّةٌ، فلِمَ لا يجوزُ لِرأسِ الإمامِ الحُسَينِ(عليه السلام) أن ينطِقَ ليُقيمَ الحُجَّةَ على ذلكَ الخلق المنكوسِ وليظهر اللهُ قدرته، وعظيمَ فضلِ الإمامِ الحسين(عليه السلام) ؟ فرأسه الشريف (أرواحنا لتراب نعليه الشريفتين الفداء) أشرف بمليارات المرات من الهدهد والنملة والطير وكلّ مخلوقات الله تعالى التي لا تساوي عند رأسه الشريف مثقال ذرة من الكمال والجمال والجلال..كيف لا!؟ ولولاه لما خلق اللهُ الأفلاك، ولولا الحُجَّة لساخت الأرض بأهلها...فقد ضحى بكلّ شيء لديه وعرَّض عياله للسبي وواجهه ثلاثون ألف مقاتل ولم يتمكنوا منه إلا بالغدر واستخدام كلّ وسائل القتل والتنكيل والمثلة..هذا فضلاً عن عطشه وحزنه فديته بروحي ونفسي وأبي وأمي وأهلي، وقد صمد أمام كلّ أساليب التعذيب وكان بطلاً هماماً لم نرَ في تاريخ البشرية على الإطلاق من حوصر بقتال واستخدمت بقتاله شتى أساليب الأسلحة الفتاكة وأشدّها تعذيباً وفتكاً ومرارةً وهو لوحده في الميدان بعد أن فقد أخاه وليّ الله وحيبيه العباس بن أمير المؤمنين عليّ عليهم السلام وقد كان يذود عن أخيه ببسالةٍ لا نظير لها ولم نرَ مثيلها في تاريخ الحروب وساحات القتال..من هنا هدّ مقتله أخوه الإمام الحسين عليه السلام قائلاً تلك الكلمة الغراء:" الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي وشمت بي عدوي" ليت السماء أُطبقت على الأرض، وليت النجوم والكواكب اندثرت لما قُتِل مولانا العباس وتُرك الإمام الحسين عليهما السلام وحيداً في صحراء كربلاء وحوله الآلاف المؤلفة من الذئاب والكلاب العاوية والسباع الضارية تريد أن تنهش منه عضواً..وبالرغم من ذلك كلّه كان يشب فيهم كما يشب الذئب في الماشية، من هنا كمنوا له كما كمنوا لأخيه فهجموا عليه بالآلاف هجمة واحدة من كل الجهات بشتى أنواع الأسلحة الرومية الفتاكة..فمثل هكذا إمام لم يرَ التاريخ مثله ولن يرَ..أفلا يستحق هكذا كريم أن يكرمه الله تعالى بإنطاق رأسه وهو القادر على كلّ شيء..؟!! بلى وربي لقد أكرمه بكلّ شيء ظاهراً وباطناً في عالم الملك والملكوت واللاهوت والجبروت..وسيكرمه في الرجعة ويوم القيامة بما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر..ذلك كلّه لأنه عليه السلام قدَّم لله تعالى كلّ ما لديه...فسبحان من خلقه وقدّره وأكرمه وأعطاه ما لم يُعطِ أحداً من العالمين...
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين، واللعنة الدائمة الأبديّة على أعدائهم ومبغضيهم منكري فضائلهم وظلاماتهم من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدِّين.
وأمَّا النقطة الثانية: علاجُ التَّشكيكِ في زيارةِ الأربعين.
فقد أوردنا على المشكك في زيارة الأربعين في بحثٍ مكتوب ومسموع؛ أمَّا المكتوب فهو منشور في موقعنا الإلكتروني: مركز العترة الطاهرة للدراسات والبحوث تحت عنوان (الإيراد على تشكيك محمد حسين فضل الله في زيارة أربعين الإمام المعظَّم الحسين صلوات الله وسلامه عليه).
وأمّا المسموع فهما محاضرتان تحت عنوان (الإستدلال على زيارة أربعين الإمام الحسين عليه السلام والإيراد على التشكيك فيها) على الرابطين التاليين:
صلَّى الله عليك سيّدي يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلَّت بفنائك عليك مني سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار..ولعن الله الظالمين لك من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين.
________________________________________
(1) هو السيد محمّد حسين فضل الله. راجع: لماذا كانت المواجهة: ص109 نقلاً عن شريط مسجَّل.
(2) قال عليه السَّلام: علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين وزيارة الأربعين والجهر ببسم الله الرّحمان الرّحيم والتختم باليمين وتعفير الجبين.
(3) مقتل المقرم: ص433.
(4) مقتل المقرَّم: ص433.
(5) المناقب: ج4، ص60.
(6) قَفَّ: أي قام شعري من الفزغ.
(7) مقتل الإمام الحسين للمقرَّم: ص434.
(8) مقتل الإمام الحسين للمقرَّم: ص434 نقلاً عن أسرار الشهادة
(9) مقتل الإمام الحسين للمقرَّم: ص434، نقلاً عن شرح قصيدة أبي فراس ص148.
(10) مقتل الإمام الحسين للمقرَّم: ص435.
(11) المناقب: ج4، ص61، والخصائص الحسينيّ: ص278.
(12) نفس المصدر السابق.
(13) المناقب:ج4، ص60.
(14) المقتل: ص434.
(15) وقال تعالى: [وأنزلنا عليكَ الكتاب تبياناً لكلّ شيء]، والإمام عليه السَّلام يعلَم ما في هذا الكتاب، راجِعْ البصائر: ص148ح4.